لم يقطع الصمت الطويل سوى صوت أبي الذي كاد يجهش بالبكاء:
- سنسافر اليوم إلى القرية.
شعرت بحزن إضافي لأنني لا أعرف أحدا في القرية، ولا حتى أفراد أسرة عمي الذين رأيتهم منذ أكثر من أربع سنوات مصادفة. فقلت لأبي:
- سأبقى هنا في المنزل.
ثم شعرت بالارتياح وأنا أتخيل نفسي وحيداً في البيت، أفعل ما يحلو لي دون موجه أو رقيب.
ولكن أبي أصرَّ على أن أذهب برفقة العائلة، لاسيما أنني كبير إخوتي، ويجب أن أقوم بواجب العزاء تجاه أسرة عمي، وأنهى مواعظه بقوله:
- كن رجلاً.. ولا تتصرف كالأولاد.
لم أشأ حتى إظهار الاعتراض على والدي المفجوع بموت أخيه، فاستسلمت بحزن كباقي أفراد أسرتي.
•••
عندما وصلت منزل عمي المتوفى التقينا بأقاربنا جميعهم وقد هرعوا من كل مكان لحضور الجنازة. وأدركت أن رأي أبي كان صائباً، فقد كان التعرف إلى أقربائنا أمراً جيداً برغم أجواء الحزن المسيطرة على الجميع.
•••
لم أعد أذكر كيف بدأت أشعر بجمال أصغر بنات عمي المتوفى، فلم تقدر الثياب السوداء غير المرتبة، أو العيون المحمرة من كثرة البكاء، أو ملامح الحزن الشديد على إخفاء جمالها الرائع الذي لم يخفه الحزن، بل أضفى عليه لمسة من حنان فياض، مما جعلني أتساءل:
- لماذا لم يمت عمي منذ سنوات؟!.
•••
كنت كلما التقت عيوننا في نظرة عابرة، أراها تخفض عينيها وقد أحمر وجهها، فأسال نفسي:
- « أتخجل من نظراتي..؟ أم هي غاضبة من سلوكي هذا..؟ وما عساها تفكر في هذا الوقت وهي المفجوعة بوفاة والدها ؟!».
•••
رأيتها منفردة في إحدى حجرات المنزل تتأمل صورة والدها المعلقة على الحائط وهي تذرف الدموع بصمت.
اقتربت من الصورة المعلقة على الجدار، وابتسمت لها، فخفضت بصرها، واستدارت تريد الخروج، فامسكتها من يدها كي تبقى واقفة بجانبي، فقد كنت أريد أن أقول لها شيئا ما.
التفتت صوبي متسائلة بحيرة عن تصرفي الذي لم تتوقعه فيما يبدو. وجدت نفسي أهمس بأذنها الصغيرة بكلمة واحدة:
- أحبك!.
على الرغم عنها افترت شفتاها الرقيقتان عن ابتسامة باهتة لمتّها بسرعة، ثم قالت بغضب مصطنع لا يليق بوجهها الوديع:
- الوقت غير ملائم؟!.
خمّنت أن غضبها غير حقيقي، بل ناتج عن عدم اللباقة في طرح مثل هذه المواضيع في غير الوقت المناسب، فقلت متصنعا جدية مبالَغاً فيها:
- يكفي حزنا.. لماذا لا نتزوج؟.
حدقت بي بعينين اتسعتا دهشة، وارتسمت ملامح الذهول على وجهها الجميل. فأضفت مؤكداً:
- كي ننجب طفلاً صغيراً نسميه راجح.. على اسم المتوفى الغالي.
لم تقدر على منع نفسها من الضحك بصوت عال سرعان ما خفضته. ربما لأنها تخيلت أنها والدة طفل صغير يشبه والدها!.
طوقت بذراعي جسدها النحيل المتشح بالسود، وضممتها إلى صدري على الرغم من محاولتها التملص من بين يدي.
ثم سرعان ما نسينا، أن في المكان ذاته، ومنذ أيام قليلة، قد احتضر والدها - أي عمي - و لم يخطر في بالنا أن روحه قد تكون محلقة في المكان وهي ناظرة إلينا باستهجان!.