وحظ أوفر في النشر والشهرة أيضاً، وما مرد التَسابق المحموم لوسائل الإعلام إلى تداول المقال ذاك أو المادة تلك وجعلهما حديث الساعة إلا للسخونة التي تنطوي عليها تلك المواد والمقالات الصحفية سلباً أو إيجاباً، وكذلك للرغبة الدفينة التي تعتمل في دواخل أقطاب أو شركاء العملية الإبداعية من القراء والكُتّاب، أي عندما يكون الموضوع إشكالياً حيناً وفضائحياً حيناً آخر. وبالتالي فإنه عند الحديث عن الأسرار في عملٍ أدبيّ ما وكشفها وتعريتها، سيكون لتلك التابوهات دور كبير في مقاربة تلك الأسرار في حدث محدّد ما ومعين بذاته، للغوص عميقاً إلى / في عالم تلك الأسرار الغرائبي العجيب.
لكن مما لا شك فيه أن الروايات التي نجحت في إفشاء الأسرار الخاصة، كان لها نصيب من الشهرة فاقت كل التوقعات. فالرواية التي تنبني على حدث فاضح، كان مستوراً في يومٍ ما، تُقرأ دائماً وتُسوّق أكثر في سوق المبيعات، بل وتصبح الأكثر مبيعاً في قائمة الإصدارات الروائية. وقد ساد الاعتقاد لزمن طويل جداً بأنَّ رواية الأسرار في عملٍ ما، ككتابة المذكرات مثلاً، كانت مرهونة بثلة / حفنة من السياسيين والفنانين والمنفيين، ممن تغلف حياتهم الغموض والشهرة في الآن ذاته، فينضوون تحت غطائهما لكتابة هذه الاعترافات سعياً لإرضاء الضمير، وربّما تشفياً ممن لم يكن بإمكانهم، في يوم / ظرف ما، الانتقام منهم أو فضحهم أو تعريتهم. كما أن كتابة الروايات التي انضوت تحت مسمى السيرة الذاتية هي الأخرى لم تكن بمنأى عن تصورات وتُهمٍ كهذه، وقد انقسمت تلك الروايات ـ حقيقة ـ في رؤاها وتخيلاتها ومراميها إلى تحقيق أهداف شتى، منها الكيدي التشهيري والانتقامي الفضحي والأدبي البحث ـ الواقعي والتخييلي ـ قلباً وقالباً.
إن أول ما يقفز إلى أذهاننا من تلك الأسرار هي الأسرار العسكرية أو الوطنية، بما تنطوي عليه تلك الأسرار من أهمية كبيرة تمس أمن بلد ما من تلك البلدان التي تمثل تلك الأسرار حماية مأمولة / مرتجاة، وذلك بالتكتم الشديد عليها ـ أي الأسرار ـ وعدم تداولها مهما كانت الدوافع والأسباب ضرورية ومغرية، لكن الأمر ليس على هذا النحو البتة، بل نحن في معرض آخر، معرض تلك الأسرار التي غيّرت مسار تاريخ ما، ولا يهم الأمر إطلاقاً إن كان ذلك التاريخ تاريخاً شخصياً أو بيئياً أو مجتمعياً. فهذا النوع من الروايات قَضّ مضجع / مضاجع كبار الشخصيات والمؤسسات الاعتبارية وسياسات دول كبرى عملت على تصدير الإرهاب تحت مسمى التحرير وضمان الأمن للشعوب الآمنة والمُسالمة أصلاً.!
في الواقع، إن ما ننشده من سرٍ ونسعى للغوص في تفاصيله، ذلك السر المخوف منه والخائف عليه، سر الإرهاب الذي سلب الروح من خيرات وشباب الوطن، سر جريمة لم تكتشفها الخبرة المخابراتية والجنائية للتعتيم المبرمج الذي مارسته / انتهجته وتنتهجه دول عظمى ـ غربية غالباً ـ هي أُسّ الكره والإرهاب في المعمورة قاطبة، أسرار أشباه الكُتَّاب والشلل الثقافية ومدّعي الثقافة الذين عاثوا في أرض الأدب فساداً والتي برع في ذكرها الروائي السوريّ فواز حداد في عمليه الروائيين « المترجم الخائن» و» عزف منفرد على البيانو». في حين ذهب الروائي الجزائري واسيني الأعرج في جُلّ أعماله الروائية الهامة، مثل: « كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد» و» سيدة المقام.. مرائي الجمعة الحزينة» إلى فضح أسرار الإرهاب الذي يشوه البنيان الفكري والتنويري والعمراني في بنية المجتمع الجزائري، هذا الإرهاب المخرب والمدمر الذي زَرَعَ / نَفث سمومه في الدين والفكر والثقافة والأدب وحتى العلاقات الإنسانية والاجتماعية الرحيمة. وكان للروائي المصري يوسف زيدان رأيه المفصلي والمحوري الهام في عمله الروائي « عزازيل» بتسليط الضوء على الصراعات والتكسبات التي طالت التعاليم والتوصيات الكنسية المسيحية خلال قرون خلت... لكن هل يمكن لنا القول بأنّ زيدان نبش وحفر عميقاً في تلك الأسرار التي كُتِبَ عليها التعتيم منذ حقب وقرون خلت، وممنوع / محظور الاقتراب منها.؟! ربّما.. وربّما سيدين له البعض يوماً ما ضداً بأولئك الذين كالوا له التُهم.! دون أن ننفي عن العمل بأي شكل من الأشكال طابعه التغييري والتهديمي والتصوراتي بجواز تأويل المؤول، وجواز تفنيد المغروس في الأذهان سواء بالقوة أو المهادنة والترهيب أو الترغيب. وكان الروائي نجيب محفوظ قد تطرق في عمله الروائي المثير للجدل» أولاد حارتنا» إلى حقبة هامة في التاريخ الإسلامي، كما أنه ثمة روايات ذهبت في تجنٍ كبير وسَافِرٍ إلى فضح لإلوهية المسيح ومنها رواية « شيفرة دافنشي» للروائي «دان براون» الذي كذّب الاعتقاد الشائع بإلوهية المسيح، ولم تكتف بالتكذيب فقط، بل زعمت / ذهبت الرواية ومعها الروائي إلى تعرية المعتقدات الشائعة / السائدة التي آمن بها الناس وما زالوا لردح طويل من الزمن. لكن لعل المثال الأوضح هو ما أقدم عليه الروائي البريطاني» جورج أوريل» عندما فضح الاتحاد السوفيتي في عمله» مزرعة الحيوانات» حيث ذهب في عمله هذا إلى فضح أسرار السدنة المستبدة التي تستأثر بخيرات البلاد لنفسها على حساب عامة الشعب الرازحين في الفقر والفاقة، وعلى الدرجة ذاتها جاءت اعترافات « اعتماد خورشيد.» لتزيل الستار وتعري الغطاء عن حقبة كانت تكرس فيها بتجنيدها لا أخلاقياً لغايات يدّعى بأنها تنصب في فحوى الحفاظ على أمن البلد متطرقة لتعاونها اللاإرادي مع الجهات المختصة في الزج والإيقاع بشخصيات هامة للتحصل على أكبر قدر ممكن من المعلومات التي كانت تساعد تلك الجهات المسؤولة في اكتساب شرعية للتقرب حيناً ومحاكمة أولئك الأشخاص ( الاعتباريين) و فضحهم حيناً آخر. كما إن الكاتب التركي» أورهان باموق» الحائز على جائزة نوبل، عاش حياة صعبة وتعرض لحملات شعواء، بعد فضحه لأسرار المذابح والإبادة التركية للأرمن في روايته الخالدة» اسمي أحمر»، وكان مما قاله في هذا الشأن:
« أنا لم أُدن الحكومة التركية في هذا العمل، بل حاكمتُ نفسي، لأنني كمواطن تركي يحمل الجنسية التركية، شريك بشكل أساسي في تلك المذابح الجماعية للأرمن، وعليه فأنا أطالب بمحاكمتي قبل محاكمة الآخرين عن كلّ تلك الجرائم.»
أما رواية « غومورا ـ Gomorra” للروائي الإيطالي” روبيرتو سافيانو ـ Roberto Saviano « التي طبع منها مليونا نسخة وترجمت إلى 33 لغة عالمية، حيث فضح الكاتب فيها خطط المافيا الإيطالية التي تتحكم في اقتصاد إيطاليا وأمنها، ولما أبصر الروائي الشاب روبيرتو سافيانو التجاوزات التي تقدم عليها تلك المافيا في مدينته ومسقط رأسه نابولي، أثناء كتابة تحقيقات عن عمل تلك المافيا، هَالهُ القتل والتشريد والسطو على البنوك وتعيين الوزراء وتنحية آخرين عبر ممارسات أقرب ما تكون للقمع والزجر والسلب والنهب. تحدى الخطر وكتب عمله الهام هذا، أَدان فيه أسرار الفساد والإرهاب المنظم وتفاصيل عالم الجريمة وكلّ المشاريع والخطط والمؤامرات التي تحيكها وتقوم بها المافيا الإيطالية. فأصدرت تلك المافيا بدورها حكماً بالإعدام عليه، وهو منذ صدور هذا الحكم الجائر / المتعسف يعيش متنقلاً بين مدينة وأخرى، كما أنه لا يمكث في المدينة الواحدة أكثر من ثلاثة أيام، مدججاً بالحراسة الأمنية، مترقباً موته بين لحظة وأخرى.! وكان قد صرح لوسائل الإعلام من أحد مخابئه العديدة:
«إن الأمر لا يتعلق فقط بمحاكمة جرائم المافيا بجنوب إيطاليا، بل أساساً بفتح الأبواب لمعرفة عالم المعاملات المالية العملاق للعصابات بشمال البلاد. كما أقر في نفس الحوار قائلاً بأنه:
يعيش وضعاً لا يحتمل إذ أنهم عملياً نفذوا تهديدهم حتى أن بعضهم جهز تابوتي.!»
رواية الأسرار وفضحها وتعريتها في الرواية أو في أي جنس أدبي آخر من أجناس الأدب المتعارف على تصنيفها حتى اليوم، بطابع فني إنصافي لا بغرض تكسبي، بل جمالي موظف ولغوي مسبوك، لكشف الستار عن غموض مُحير ومرحلة معتمة، لا تقل في أهميتها عن أهم العناصر والأركان التي ينبني عليها أي عمل أدبيّ ما. فالأدب في جانب من جوانبه الكبيرة ووصاياه الكثيرة، أدب تغييري وتهديمي لا تفسيري وتنظيري ومقارباتي ومحاباتي فقط. والأديب كذلك، وحده الأديب الغيور، المنسجم مع نفسه والمتصالح مع واقعه، مُطَالبٌ انطلاقاً من رسالة الأدب والمسؤولية الملقاة على كاهله، بالكشف والنبش في تلك الأسرار، فكاً وتركيباً، تحليلاً وتأويلاً، نشداناً للارتقاء والسمو والعلو بالمجتمع، وسعياً لأدب كوني إنساني جمالي تواصلي مُعرٍّ هو المُبتغى والمُجتبى من الألف إلى الياء ومن المنبع إلى المصب.!