التشظية
في عام 1976، وعلى إيقاع الحرب الأهلية اللبنانية المندلعة للتّو، جاءت رواية غادة السمان (كوابيس بيروت) في بنية متشظية كما يليق بالكابوس في البناء الروائي وفي الخطاب الروائي. وسوف تبلغ هذه التشظية مداها الأبعد في تفتيت السرد واصطناع فوضى البناء وبعثرة الزمن، وذلك في رواية مؤنس الرزاز (الشظايا والفسيفساء ـ 1994). ولن تغيب هذه (الصيغة) من بعد عن المشهد الروائي، وإن كان حضورها سيظل متواضعاً، وسيلتبس بالتشذير، وهو يتغيّا تهشيم العمود السردي.
الحفر الروائي في التراث السردي
إذا كان الحفر المحفوظي في التراث السردي يتعلق بخاصة بألف ليلة وليلة، وليس فقط في روايته (ليالي ألف ليلة)، فقد سلك هذا المسلك على عهده آخرون مثل هاني الراهب (ألف ليلة وليلتان ـ 1977) وخيري الذهبي (ليالي عربية ـ 1980) وواسيني الأعرج (مصرع أحلام مريم الوديعة ـ 1984). لكن الأهم هو أن الحفر الروائي في التراث السردي قد جاء إضافة جديدة على يد إميل حبيبي، في سائر ما كتب. ومثل ذلك هي الإضافة الجديدة التي جاء بها جمال الغيطاني (الزيني بركات ـ 1974).
لقد حضرت (ألف ليلة وليلة) في ولادة الرواية العربية، منذ رواية فرنسيس المراش (در الصدف في غرائب الصدف ـ 1872). كما حضر سواها من التراث السردي في تجربة محمود المسعدي. وتواصل كل ذلك الحضور وتنوع وتعمق من بعد حتى بدا عنصراً جديداً متمايزاً عن التجربة المحفوظية. ففي تجربة جمال الغيطاني برز التراث الصوفي مثلاً. كما عادت ألف ليلة وليلة للظهور بمظهر آخر في رواية واسيني الأعرج (المخطوطة الشرقية) وفي رواية هاني الراهب (رسمت خطاً في الرمال ـ 1999). وفي خط آخر حفرت الرواية العربية بعد محفوظ في (طوق الحمامة) مما تبدى في روايات أحمد يوسف داوود (فردوس الجنون) وميرال الطحاوي (الباذنجانة الزرقاء ـ 1997) وأمين الزاوي (رائحة الأنثى ـ 2000). وقد كان للحفر الروائي في التراث السردي فعله في بناء الرواية على هيئة الدفتر كما في رواية إميل حبيبي (إخطية ـ 1985) وسلسلة روايات جمال الغيطاني (دفاتر التدوين)، وعلى هيئة الكتاب كما في رواية صلاح الدين بوجاه (النخاس ـ 1996). ولئن كان كل ذلك قد أخصب التجربة الروائية العربية منذ عهد محفوظ إلى ما بعده، ولا يزال يعد بالكثير، ففي شطر منه بلغت المبالغة حد التتريث، كما في مضارعة فرج الحوار للغة القرآن منذ روايته (التفسير والقيامة ـ 1985)، ومضارعة هاشم غرايبة للبناء السوري القرآني في (رؤيا ـ 1991) واللغة التي اختارها محمود طرشونة في (المعجزة ـ 1996).
الحفريات التاريخية
بدأ نجيب محفوظ تجربته الروائية بمحاولة الحفر في التاريخ الفرعوني، وهو ما سيتكرر، في مرحلة متأخرة (أمام العرش ـ 1983). ويمكن النظر إلى الثلاثية كمحاولة أخرى للحفر، ولكن في التاريخ الحديث الذي عاش الكاتب شطراً منه في شبابه، ولم يتجاوز فيه الفاصل بين زمن الكتابة والبداية التاريخية للثلاثية، نصف قرن.
بين الرواية التاريخية كما كتبها جرجي زيدان ومعروف الأرناؤوط ونجيب محفوظ في البداية، وبين الحفر الروائي في التاريخ، بونٌ تدلّل عليه ثلاثية الأخير. غير أن هذا الحفر سيمضي بالرواية العربية في تجربة مختلفة، ابتداءً من رواية جمال الغيطاني (الزيني بركات ـ 1974) إلى رواية هاني الراهب (الوباء 1981). ومع عبد الرحمن منيف في (مدن الملح) سيتفاقم التنوع وتتفاقم الخصوبة في هذه التجربة، باطراد التجربة الكلاسيكية، كما في روايتي فواز حداد (دمشق موزاييك) و(تياترو 49). وإذا كان كل من منيف والغيطاني قد واصلا حفرياتهما الروائية في التاريخ بعد نجيب محفوظ، فإن تلك الحفريات قد تضاعفت وتعمقت وتنوعت في المدونة الروائية ما بعد نجيب محفوظ. وتتميز هنا تجربة سالم حميش في روايته (مجنون الحكم ـ 1990) التي عادت إلى الحاكم بأمر الله، وروايته (العلامة ـ 1997) التي عادت إلى ابن خلدون، وروايته (هذا الأندلسي ـ 2007) التي عادت إلى ابن سبعين. ومن الروايات المميزة في هذا السبيل رواية ممدوح عزام (أرض الكلام ـ 2005) والتي عادت إلى سنوات الوحدة السورية المصرية، بينما عادت سابقتها (قصر المطر ـ 1998) إلى زمن الاستعمار الفرنسي. أما واسيني الأعرج فقد عاد إلى ما هو أبكر في روايته (كتاب الأمير ـ 2005) زمن الاستعمار الفرنسي في الجزائر والثورة التي قادها عبد القادر الجزائري. وقد كان لسميحة خريس مساهمتها الكبرى في الحفر الروائي في التاريخ، كما تدلل رواياتها (شجرة الفهود ـ تقاسم الحياة: 1995) و(شجرة الفهود ـ تقاسم العشق: 1997) وكذلك: (القرمية: 1999). وإذا كان من اللافت الحفر الروائي في التاريخ الأندلسي، فإن المساهمة النسائية هنا تتعزز أيضاً بثلاثية رضوى عاشور (غرناطة ـ 1994).
الفضاء الكنائي واستراتيجية اللاتعيين
في هذه اللعبة لا تحدد الرواية فضاءها، وقد لا تحدد زمانها أيضاً، حيث تشتغل استراتيجية اللاتعيين، والتي تعزى إلى التقية، درءاً لخطر السلطان السياسي و / أو الاجتماعي و / أو الديني. غير أن ذلك لا ينبغي أن يُغفل ما قد توفر استراتيجية اللاتعيين للمخيلة من نشاط وأمداء. وتعجل الإشارة هنا إلى اسماعيل فهد اسماعيل في روايته (المستنقعات الضوئية ـ 1971) و(الحبل ـ 1973) وإلى رواية حميدة نعنع (الوطن في العينين ـ 1979) وإلى الرواية المشتركة لعبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا (عالم بلا خرائط ـ 1982)، فإلى رواية هشام القروي (ن ـ 1983) وإلى رواية غائب طعمة فرمان (المرتجى والمؤجل ـ 1986)، وإلى أغلب روايات عبد الرحمن منيف، ففي (شرق المتوسط) وفي مدن حران وموران في الخماسية وعمورية في الرواية المشتركة، نهضت جغرافية روائية تخاطب بشفافية الجزيرة العربية والعراق، بينما نهضت الجغرافية العربية بعامة في رواية هاني الراهب (التلال ـ 1988). وقد تابع الراهب التشييد الروائي لجغرافيا الخليج العربي في روايته (رسمت خطاً في الرمال). وسوف يلعب لعبة (التلال) أبو بكر العبادي في روايته (آخر الرعية ـ 2002) حيث تضاهي (عربانيا) هنا تعليتا في (التلال). وفي هيئة أخرى يتكنى الفضاء العربي في رواية غازي القصبي (العصفورية ـ 1996) لنرى عربستان 48 وعربستان 49 وعربستان 50 وعربستان 60. كما يتكنى العالم كله في رواية (دينسكو) للكاتب نفسه. وعلى هذا النحو تتتالى روايات عبد الله خليفة (أغنية الماء والنار ـ 1989) وبهاء طاهر (الحب في المنفى ـ 1995) وعزت القمحاوي (مدينة اللذة ـ 1997) ومؤنس الرزاز (سلطان النوم وزرقاء اليمامة ـ 1997) وعزت الغزاوي (عبد الله التلالي ـ 1998) وعبد الجبار العش (وقائع المدينة الغريبة ـ 2000) وواسيني الأعرج (المخطوطة الشرقية)، ومنهل السراج (كما ينبغي لنهر ـ 2003) ويوسف المحيميد (فخاخ الرائحة ـ 2003).
من بين محاولات الخروج من العباءة المحفوظية، كانت المحاولة اللغوية. ومن هذه المحاولة كانت صيغة السبيكة، أي أن يأتي شطر من الرواية، كبر أم صغر، في دفقة لغوية واحدة، لا تعبأ بعلامات الترقيم ولا بأدوات الربط ولا بالسلسلة المنطقية. ومن ذلك ما جاء في رواية صنع الله ابراهيم (نجمة أغسطس ـ 1974)، كما جاء الكثير من ذلك في الكثير من روايات إدوار الخراط، وفي رواية هاني الراهب (ألف ليلة وليلتان ـ 1977) وفي رواية حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر ـ 1984). وفي لغة روايات حيدر والخراط كانت أيضاً صيغة اللغة الشعرية، نسبة إلى الشعر، بما يعني ذلك من الاستفاضة والتضبيب. أما الصيغة اللغوية التراثية فقد تواترت في روايات جمة مما كتب جمال الغيطاني وصلاح الدين بوجاه وسالم حميش وسواهم فيما حاول أن يضارع اللغة التاريخية أو الدينية وسواهما من اللغات التراثية. غير أن ما هو أكبر فعلاً في اللغة الروائية، ما تواتر، بل وأخذ يتفاقم، من العاميات، في الحوار بخاصة، وفي مواقع شتى من المتن أيضاً، بدعوى المحلية أو تنزيل الفصحى من عليائها. وقد اضطر ذلك كثيرين إلى شرح مفردات وتعابير عامية، بينما تجاهله آخرون غير عابئين بما قد يستغلق في الرواية على من لا يجيد اللهجة المعنية.