تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هل هي الرواية العربية الأولى؟!

كتب
الأربعاء 30-9-2009م
أحمد علي هلال

للسؤال مبنى استفهامي وهو يبحث في مقومات جدارة الرواية العربية الأولى بالريادة، لكنه إزاء مدونات سردية أولى سيقف على دلالة الفارق الزمني، وتحقق المعنى الفني في واحدة بعينها،

ربما اعتبرت ولمسوغات منطقية أنها رائدة، ما يعني استمرار الجدل أو حسمه بشأن (التحقيق النقدي) بالروايات العربية المبكرة، ولاسيما ما استقر الاجماع فيها على رواية (زينب) - مناظرة وأخلاق ريفية - للمحامي المصري محمد حسين هيكل بطبعتها الأولى في العام 1914، دون إغفال أن أول رواية عربية كتبتها المرأة هي «حسن العواقب» للكاتبة زينب فواز 1899، بعناصرها الحديثة وبطابعها الواقعي التاريخي.‏

لا تحيلنا المقارنة الزمنية وحدها لترجيح أسبقية رواية معينة، بل المعنى الفني مضافاً للمعنى الزمني، التاريخي وهكذا ستبدو رواية اللبناني صاحب المطبعة السورية - آنذاك - التي تصدر جريدة «حديقة الأخبار» وكتباً مترجمة، ألا وهو خليل الخوري في «وي إذن لست بإفرنجي» الأقرب إلى الريادة وذلك لجملة أسباب تبدو لمحققها د. شربل داغر جديرة بالانتباه والاهتمام، ولاسيما بعد أن نشرت الرواية عام 2007 في مصر دون تحقيق يذكر إلى أن صدرت الطبعة المحققة مؤخراً، لتعلل دلالة الريادة بممكنات المنهج الاستقرائي الذي بذله المحقق والناقد والباحث شربل داغر، الذي تعرف على الرواية في طبعتها المتوافرة في مكتبة الآباء الشرقيين ببيروت، ومن خلال تعرفه على خليل الخوري وريادته للشعر العصري فأشهر دواوينه هي:‏

زهر الربا والعصر الجديد والسمير الأمين والشاديات والنفحات، فضلاً عن مسرحية بعنوان: النعمان وحنظلة وروايتين أسبق من روايته - موضوع التحقيق-.‏

وهكذا يعود شربل داغر في تقصيه للرواية، من خلال أعداد الجريدة الكاملة والكتاب ليعنى بالاختلافات التدوينية بينهما، وليورد حواشٍي تفسيرية مفيدة لإدراج قصائد فرنسية وعربية في متونها الصحيحة ليحسم سؤال الريادة، ويقف على الإجابة عن سؤال معلق تركه الباحث المصري محمد سيد عبد التواب في نشره للرواية دون تحقيق وهو: هل هي الرواية الأولى؟!‏

ليمكن قارئ الرواية اليوم من وعي شرطها التاريخي، وسياقاتها اللغوية والفنية والثقافية بأداء عال، وانتباه نقدي حصيف بقيمة مضافة هي المعرفة والمتعة ولذة اكتشاف البدايات المؤسسة للرواية العربية بالمعنى الفني (عهد الطباعة العربية الأول وصيغ تدوين الكلام) فثمة معيارية تعول الذائقة الأدبية عموماً على نتائجها، والرواية - إذن - كخلاصة منتهية ما بين (الجريدة والكتاب) ستقودنا إلى عوالمها وخطابها ومقولتها الأساسية، ولاسيما إذا علمنا أن الكاتب مثقف مستنير وشاعر ومترجم فضلاً عن أنه الناشر، إذ يبتدئ بمقدمة ومقدمة المقدمة ليبني حكايته باثني عشر فصلاً تحيلنا إلى روايته الاجتماعية الأخلاقية التي تربط الأدب بالتمدن، وتظهر مواقف الكاتب - الخوري - الشعرية، ولاسيما انتقاده للمتنبي وللشاعر الفرنسي لامارتين، في الفصول الأولى.‏

فكيف جعل المتنبي حياته ترحل وبقي يتكلم وينظم الشعر، ولماذا تمنى أن تكون عظامه حصى تدوسها خفاف أحبته؟‏

فقد رجع المتنبي إلى التراب وفقد الحس، فلا يشعر إن داست عليه تلك الأقدام أم لم تدس، ليقول الخوري بنظرته للشعر على أنه هوس محض، وفي أبيات أخرى للمتنبي ثمة حقيقة خالصة «ولو مزجت أقوال المتنبي ببعضها وسكبت قطعة واحدة لحق له أن يأخذ الكرسي الأول في قاعة شعراء الكون»، ليجلو الخوري صورته كناقد يطالب الشاعر باستقلاله الذاتي وحريته، وأن لا يكون آلة لتنفيذ مآرب الناس، وأن يسلك على مبدأ سقراط الحكيم في عدم بيع الحقيقة التي ينزلها الإلهام على قريحته الفاضلة، لكنه مع لامارتين يستغرب كيف يكتب الشاعر لصبية تشرب النارجيلة في حلب - في إحدى جنائنها وهو لم يزر حلب إطلاقاً، يقول الخوري لا نعلم إن كان أراد سخرية بها أم مدحاً أم ذكراً لحقيقة الحال»، فأبيات لامارتين اشتملت على كل معنى جميل، المعنى الذي يتعاضد مع عالم أحلام الشاعر الميثولوجية (الأسطورية) ولكن الخوري يذهب في انتقاده إلى أبعد ليطول الهيئات الاجتماعية والتمدن الزائف عبر روايته التي تأخذ أسلوب الرحلة من بيروت إلى دمشق إلى حلب والعودة لبيروت، فيبرع في وصف الأمكنة والطرقات والحواري ويأخذ القارئ بدءاً من المقدمة إلى فضاءات المدن، يطوف به في حلب منازلها وشوارعها، وهيئتها الاجتماعية فهو يؤثر تأجيل ملاحظاته، ليصغي للآلات الجديدة بهذه المدينة، « لايخفى أن أهل حلب من أبرع أهالي الشرق بالفنون الموسيقية»، ليتحدث عن مزايا أهلها وهي حب التوفير العام ويرى أن الأمر لا يخلو من مشابهتها في بعض الأوجه إلى مدينة بيروت في الأصول «التفرنجية» لنجده يوازن ما بين حلب وبيروت في النواحي التجارية، لايشك أن أهل هذه المدينة - حلب - سيكونون من أول الملبين لصوت العصر الذي يدعونا إلى التقدم الأدبي والمادي بالصنائع التي قد طالما اعتادوا على ممارستها.‏

أما دمشق فلم تزل على أصل فطرتها العربية منزهة عن كل ما يخل بوجودها الأهلي، وبذلك دامت مع تقلبات الزمن والذوق، مركزاً للآداب والعوائد والهيئات الشرقية الشريفة.‏

يعود إلى حلب وهو مصرح بمقصده - الحقيقة - ليعاين «التفرنج» في رجل في لباس الافرنج قيل إن جده الأعلى كان تزوج بامرأة (شبين) أخيها بلاد الغرب، فتعلم من لغة شبين أخ زوجة جده وصار (افرنجياً) إنه ميخالي مركز حكاية الخوري، وأحداثها وخيوطها السردية المحكمة الذي يتقرب من الفرنسي ادموند الذي يحل ضيفاً على عائلته، يتوسل ميخالي محبة الفرنسي طمعاً بزواجه من ابنته اميلي فيما يعارض زواجها من قريبها لأمها أسعد، وحقيقة ما جذبه هو الاتصال بأصله الفرنجي، بما يبديه من السلوك وآداب الطعام، وتطيره من العرب اميلي العاشقة تعيش صراعات نفسية ما بين أدموند وأسعد، تحتدم المصائر، يرحل أدموند، ويرحل أسعد وتذهب اميلي لتنهي حياتها في الدير، راهبة أبدية بعد فشلها مع أسعد وتلاشي قصة حبهما، التي يصعدها - الخوري - بالرسائل المتبادلة بينهما، بما تحويه من ذرا درامية ووصف لأدق خلجات النفس والوجد المصفى.‏

«وي إذن لست بافرنجي» هي صرخة ميخالي الأب في وجه ادموند الذي يصارحه أن العادة عند الافرنج لم تجر بالزواج من العرب، فهو لا يستطيع أن يتبع أمر ميخالي خوفاً أن يلاحظ عليه في بلاده.‏

يؤكد الكاتب في خاتمة روايته أن لكل أمة قابلية إلى نوع مخصوص من التمدن لا يمكن إبداله بآخر إلا على خطر من فقد أخص الفضائل الذاتية الممتازة ولذلك لا يمكن للشرقي أن يكون غريباً، ولا الافرنجي أن يكون غريباً وما يمكن أن نأخذ من الأمة الفرنساوية الاعتناء بالعلوم والمعارف.. وعن الأمة الجرمانية دقة البحث، ولاسيما في المباحث العلمية.‏

ليقدم عينة دالة عن التمدن الحقيقي فيقول: إن تعليمنا اليوم العلوم الإفرنجية، لا ينبغي عنه أن نصير بالضرورة افرنجاً بعوائدنا ومصطلحاتنا وهيئتنا الاجتماعية، لأن الحقائق العلمية لا تختص بأمة دون أخرى كن عربياً متمدناً، لا إفرنجياً غير تام، كي لا تنكرك العرب ولا تعرفك الإفرنج، وتلتزم أخيراً بالرغم عن أنفك أن تستنكر قائلاً: وي إذن لست بافرنجي.‏

خليل الخوري الذي ينتسب لجده البعيد انتقل من حوران إلى عكار (شمال لبنان) يقدم نموذجاً في روايته على الروح الشرقية، صحيح أنه قد سبقت روايته، رواية الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق لكنه بانفتاحه على عصره (1859) وثقافته، قد حاكى تقاليد ناشئة في الصحافة الفرنسية تلك التي كانت تقضي بنشر روايات مسلسلة، كالتي كتبها الكسندر دوماس الأب وبلزاك وغيرهما، في النقد للعوائد الشرقية (المتفرنجة) فضلاً عن التعويل على الرحلة سبيلاً لبناء الرواية والتعويل على فطنة القارئ ومخاطبته في المقدمات والمتون وخلق حوافز تأليفية وجمالية ليستمر في فرجته وانصاته، تشي الرواية بمرجعياتها الثقافية، ولاسيما الفرنسية، وتفتح على الترجمة ومحاكاة الموروث الحكائي العربي (الشفوي) وغيره وهي مرجعيات ثقافية بامتياز بوعي شرطها التاريخي في العودة للقرن التاسع عشر ولمدوناته السردية، بالمعنى الفني، ورواية خليل الخوري في بعدها الثقافي صورة على تحولات سردية مهمة لجهة ثيماتها أو وعي أدواتها الفنية، إن سيل (التحقيقات) في المدونات، ربما يحيلنا لأن نتساءل هل الكلمة الأخيرة لم تقل بعد؟!‏

الكتاب: وي إذن لست بإفرنجي. - المؤلف: خليل الخوري. - تحقيق وتقديم: د. شربل داغر. - الناشر: دار الفارابي - بيروت لبنان الطبعة الأولى 2009.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية