فقد عادت واشنطن إلى مايسمى مبدأ ريفان من خلال تقديمها مساعدات عسكرية للعمليات السرية التي تقوم بها الاستخبارات الأميركية وتأجيجها للحروب ضد حكومات شرعية مع مساندتها الدبلوماسية لقوى تطلق عليها لقب المعارضة تعمل من خلالها على تدمير دول وقلب أنظمة لاتشاركها تطلعاتها في تنفيذ مبدأ ريفان المعروف.. ويأتي هذا المبدأ ليتوج مهام السي آي إيه التي انطلقت في ستينيات القرن الماضي في القارة السمراء بهدف خدمة المصالح الأميركية.
لقد مولت تلك الاستخبارات مجموعات من المندسين في صفوف النقابات الإفريقية كما بدأ خلال نصف قرن مضى ولايزال إعلامها يروج الأكاذيب والأضاليل على جانبي خط الاستواء الإفريقي.
إن اغتيال شخصيات سياسية واستهداف حكومات وطنية في إفريقيا على أيدي من تدعوهم واشنطن بفناني الظل أي العملاء التابعين لها لم يتوقف منذ أربعة عقود ونيف، فقد اكتشفت عدة صحف محلية في غانا وبوركينا فاسو وأنغولا وغيرها كيف استأجرت السي آي إيه موظفين رفيعي المستوى في تلك الدول للتجسس على حكوماتهم الوطنية على غرار تيودور آتيدو وفيليكس بيساوديديهتيدر بيوكو وغيرهم.. حيث شارك هؤلاء وسواهم عملاء السي اي إيه في نقل معلومات غاية في الأهمية لمركز وكالة الاستخبارات الأميركية في لانغلي وكما تمت تصفية معمر القذافي وصدام حسين جسدياً على أيدي فناني الظل خلال السنوات الماضية كذلك تعرض كوامي نكروما رئيس جمهورية غانا لانقلاب عسكري عام 1966 أطاح به إثر اغتيال باتريس لومومبا في كاتنغا الكونغولية عشية اندلاع الحرب الأهلية في أنغولا المجاورة لتلك الدول.. ويكفي قراءة مذكرات واعتراف عدد من عملاء السي آي إيه السابقين أمثال فيليب أجي وفيكتور ماركيتي وفرانك سنيب وجون ستوكويل لمعرفة كيف تتم عمليات التنسيق لتدبير الاغتيالات والتصفيات وماشابه وكان الاتحاد الإفريقي قد شهد تغلغل مجموعة من هؤلاء العملاء إلى صفوفه ومقره آنذاك غانا.
يقول ستوكويل: إن تأسيس المركز النقابي الأفروأميركي في لاغوس العاصمة جعل من الخيانة والتجسس وتسريب المعلومات أمراً مألوفاً في الحركة النقابية في نيجيريا وكان لتلك التنظيمات ذات الأهداف المشبوهة تشعبات وفروع في كل من بنين وتوغو وجاراتها، ألم تستأجر السي آي إيه خدمات شخصية نقابية لتزودها بالمعلومات على غرار توم مبايا من كينيا وجون تيتيغا من غانا؟
وكان الرئيس الأميركي رونالدو ريغان قد أعلن نهاية عام 1985 عن نيته تزويد العصابات المناهضة لحكومات عدة في آسيا وإفريقيا بالسلاح خاصة في أنغولا ليستقبل من ثم زعيم حركة اليونيتا( ساويمبي) في البيت الأبيض حيث دارت الأحاديث بينهما حول تقديم المساعدات العسكرية لإرهابيي اليونيتا.
وحين سألت إحدى الصحف ( إفريقيا الجديدة) العميل السري الأميركي ستوكويل عن عدد المهام السرية التي نفذتها السي آي إيه في القارة الإفريقية أجاب: إن لجنة الكونغرس والمسؤول عنها عام 1974 السيناتور شارس استطاعت احصاء مئات العمليات سنوياً إذ يترواح الرقم منذ تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركية عام 1947 وحتى منتصف الثمانينات بين عشرة آلاف عملية تخريبية وعشرين ألف ليرتفع هذا العدد اليوم إلى ضعفي ماكان عليه وراح ضحية تلك العمليات في إفريقيا وحدها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان تمت إبادتهم بطرق مختلفة يضاف إلى هذا العدد أكثر من مليون مصاب بإعاقة دائمة نتيجة تفجيرات والألغام التي زرعها عملاء فناني الظل في الأرياف والمدن على حد سواء، حتى أن هؤلاء العملاء كانوا يجبرون أطفالاً من أنغولا ونيكاراغوا على وضع قنابل يدوية في أفواهم لتنفجر بهم، كذلك يذكر ستكويل ورفاقه في مذكراتهم سيلاً من الأكاذيب أطلقها عملاء السي آي إيه لتشويه سياسة موسكو والتشكيك بالنوايا الروسية في علاقاتها مع عدد من الدول الإفريقية أو الآسيوية.
أكاذيب كانت تطبخ في مخابر لانغلي المتخصصة بالبروباغندا السوداء فخلال الحرب الأهلية التي عاشتها أنغولا مطلع ستينات القرن الماضي حطت شائعات في الإذاعات تفيد أن الاتحاد السوفيتيي يؤجج تلك المعارك علماً أن التدخل العسكري الأميركي وانتشار أسلحته في أيدي الإرهابيين الذي تسميهم واشنطن ثواراً كان واضح المعالم والبصمات.. وقد نشرت يومئذٍ الصحافة الزائيرية مئات المقالات والريبورتاجات التي فبركتها السي آي إيه تمجد فيها بطولات اليونيتا وتندد بالاتحاد السوفيتيي وكوبا كما اهتمت وكالات الأنباء الغربية بتلك المنشورات وراحت تروج لها لتعطيها صبغة المصداقية.
أيضاً ازدحمت الصحافة الإفريقية بتلك الأكاذيب المفبركة وتناولت إحدى المقالات خبر إلقاء المنشقين عن الجيش النظامي الأنغولي من الذين انضموا إلى حركة «اليونيتا» القبض على 42 مسشتاراً روسياً في مالانجا وحين جاء عشرات الصحفيين الأجانب لالتقاط صور هؤلاء المستشارين السوفييت تبين أن الخبر كاذب ولم يجدوا سوى عناصر من السي آي إيه يكذبون الخبر فلامنطقة مالانجا سقطت في أيدي اليونيتا ولا أسرى سوفييت.
يقول ستوكويل: كذلك الأمر بالنسبة لقصة خبراء عسكريين أرسلتهم كوبا إلى أنغولا لدعم حكومتها الوطنية فاتهمتهم فبركات السي آي إيه الإعلامية بالتعاون مع لاوندا( حكومة أنغولا)لتعميم العنف والإرهاب في تلك البلاد ومثلها أيضاً الريبورتاجات التلفزيونية التي نقلها عملاء الاستخبارات الأميركية للعالم حيث قام هؤلاء بتصوير مشاهد قتل وعنف في أنغولا نفذها مأجورون من أهالي الأرياف والمناطق النائية مقابل مبلغ من الدولارات شرط أن تظل وجوههم مكشوفة لتوضيح الصورة عن بعد وإلصاق التهمة بخبراء كوبيين وسوفييت.
وكان الهدف من ذلك كله زعزعة استقرار دول ذات سيادة حققت اكتفاءً ذاتياً واستقلالاً لاترحب به واشنطن التي لم تر يوماً في مبدأ مونرو سوى هزيمة لمصالحها.