وما سر التناقض إلى درجة التضاد بين تصريحات الأمريكيين من وقت لآخر؟ وكيف يمكن الجمع بين العمل الميداني على تسليح العصابات الإرهابية المأجورة بأسلحة فتاكة وبين الحديث عن جنيف2 أو غيره من الجهود والمساعي الهادفة لإيجاد حل سياسي يجنِّب المنطقة تداعيات حرب مفتوحة تترك الحاضر والمستقبل على فوهة بركان لا أحد يستطيع التكهن بالنتائج الكارثية لحممه وقذائفه التي من المؤكد أنها ستطول الجميع دونما استثناء؟
المتتبع لآليات التعامل الأمريكي وأساليب التعاطي مع الحلفاء والأزلام يدرك أن واشنطن لم تتوقف يوماً عند حسابات الأخلاق والقيم في تعاملها السياسي، ولم يكن القانون الدولي على سلم اهتماماتها عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية، وهذا يعني التخلي بسهولة عن كل ما يشكل عبئاً إضافيا ويحد من جموح واندفاعية القاطرة الأمريكية، فالتخلي عن العملاء وترك الأدوات المأجورة لتواجه مصيرها بعد مغادرة عربة بلاد العم سام جزء مركب وأساسي في سياسات جميع الإدارات الأمريكية جمهورية كانت أم ديمقراطية، ومن بقي من أتباع واشنطن وخدَّامها ليسوا أكثر أهمية ولا أعمق ولاء ممن تم التخلي عنهم، وطالما أن عقد السبحة قد انفرط فعلى كل عاقل أن يتوقع رؤية المزيد ممن سيتم إلقاؤهم من العربة الأمريكية المتعثرة بعد إعطاب عجلاتها وإصابة محركها بأضرار بالغة أفرزتها المواجهة المفتوحة مع سورية وبقية أقطاب المقاومة والممانعة ومن يقف معهم في مواجهة التغول الأمريكي الذي ما كان له أن يتوقف عن اجتياح القيم الإنسانية وسيادة الدول المستقلة لولا الصمود الأسطوري لسورية شعباً وجيشاَ وقيادة، وما ارتفاع حدة الصوت الأمريكي إلا الدليل الأبلغ على الوضع المربك لإدارة أوباما، لأن الصوت الأمريكي لا يرتفع إلا بتأثيرٍ مركب لأمرين أساسيين يشكل اجتماعهما تحدياً جدياّ وهما:
- ضيق الوقت وما يشكله من ضغط لإنجاز المطلوب، ولو كان ذلك في الوقت المستقطع، وبخاصة عندما يتعلق الأمر باستحقاقات كبرى كما هو الحال في الانسحاب من أفغانستان، أو إعادة التموضع للحد من الخسائر ولاسيما المعنوية منها كالمتعلقة بالهيبة وفاعلية الدور المطلوب في ظل المواجهة المفتوحة على الساحة السورية.
- عجز الحلفاء والأتباع والأدوات عن إنجاز المطلوب، واضطرار الأمريكي لأخذ زمام المبادرة قبل فوات الأوان، ومحاولة التعويض عن الضرر الذي لحق بهذا المشروع أو ذاك جراء إخفاق من أوكلت لهم الأدوار التنفيذية من قبل الإدارة الأمريكية التي تجد نفسها مرغمة على رفع الصوت والسقف للتغطية على العجز من جهة, وشن حرب نفسية ضد من لم يذعن لإرادتها من جهة ثانية، على أمل أن تحقق بالتهديد والوعيد والتلويح بالتصعيد ما عجزت بقية أدواتها التنفيذية عن فعله.
التناقض المفضوح والنفاق المتعمد
لا يكاد يمر يوم إلا ويصدر أكثر من تصريح للمسؤولين الأمريكيين يتعلق بسورية بشكل مباشر، والتناقض في مضامين تلك التصريحات لا يتوقف عند تعدد الأشخاص، بل يمتد ليشمل تصريحات المسؤول ذاته، وفي فترات زمنية ضيقة أو تكاد لا تذكر، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها:
- رفض الكونغرس الأمريكي التصديق على تسليح ما يسمونه معارضة سورية بأسلحة فتاكة والطلب من إدارة أوباما توضيح موقفها من هذا الأمر بدقة، وفي الوقت ذاته الإعلان عن وصول الدفعة الأولى من الأسلحة المذكورة إلى الأردن لنقلها إلى العصابات الإرهابية المسلحة التي تنشر الإرهاب والخراب في سورية، فإذا كانت مواقف الإدارة الأمريكية ملتبسة على أهم مفاصل صنع القرار الأمريكي ـ أي الكونغرس ـ فكيف يمكن فهمها من قبل الآخرين؟
- إعلان البنتاغون أنه بصدد دراسة فرض منطقة حظر جوي، بعد أيام فقط على المشادة الكلامية بين رئيس أركان الجيوش الأمريكية الجنرال /ديمبسي/ وبين جون كيري، والسؤال الكبير الذي طرحه ديمبسي: وماذا عن اليوم التالي الذي يلي إعلان فرض منطقة حظر جوي، فضلاً عن التأكيدات الأمريكية الرسمية المتكررة والمتضمنة خطورة ذلك وتكاليفه الباهظة لأن ما تمتلكه سورية من قدرات صاروخية وطيران ووسائط دفاع جوي يجعل التفكير بهذا الأمر ضرباً من الجنون.
- عودة جون كيري للتأكيد على استحالة استنساخ التجربة الليبية في سورية، والحديث عن رغبة واشنطن بالحل السلمي وبإنجاح جنيف 2.
- قبول واشنطن بالتفاوض المباشر مع طالبان عبر المكتب الرسمي الذي أوعزت لقطر بافتتاحه في الدوحة، فأمريكا التي شنت حرباً على العالم بذريعة محاربة القاعدة ممثلة بطالبان لا تتورع عن الحديث جهراً وبكل وقاحة عن إرسال وفد رسمي للتفاوض، فأي إرهاب هذا الذي تدعي إدارة أوباما ومن يدور في فلكها المأفون محاربته؟
من كل ما تقدم يتبين أن النفاق المفضوح هو العنوان الأبرز لمواقف واشنطن، وأن التناقض السافر في التصريحات والممارسات يؤكد مدى الإرباك الذي تعيشه إدارة أوباما، فالسقوط المتتالي لرموز الخيانة والتآمر بدءاً بحمد قطر المخلوع ورئيس وزرائه الذي انتهت صلاحيته يدل على أن المشروع الأمريكي في انحسار، وما المد الجماهيري في مصر أم الدنيا، وفي تركيا ضد حكم مرسي وأردوغان إلا البرهان الساطع على إسقاط مشروع تفتيت المنطقة بفضل الصمود السوري الذي أكد أن إرادة الشعوب أقوى من كل جحافل العدوان والتآمر والإرهاب، وأن المشروع الصهيوني ـ الأمريكي ـ الأوروبي ـ العثماني ـ الخليجي قد سقط بشقيه السياسي والعسكري، فتعميم «أخونة» المنطقة أصبح عديم الجدوى وغير قابل للظهور، والجسد العسكري الإرهابي قصم ظهره وقطعت أوصاله في جميع ساحات المواجهة الميدانية على امتداد التراب السوري، كما تم القضاء على أحد أبرز تجلياته الإقليمية بعد التخلص من ظاهرة «الأسير» في صيدا، و هذا لا يعني تخلي قوى الاستكبار العالمي بالمطلق عن مشروعها العدواني،إلا أن من استطاع هزيمة ذاك المشروع في أخطر مراحله لن يعدم الوسيلة التي تمكنه من إعلان الانتصار ولو كره المتآمرون.