وللتأكيد حين نستعرض محطات في حياة مبدعينا فإننا لا نأتي بجديدولكننا نذكر بصفحات من حياة هؤلاء المبدعين الذين شكلوا محطات مهمة في حياتنا وثقافتنا.
وعمر أبو ريشة الشاعر والديبلوماسي تجاوز حدود وطنه العربي الى العالمية من الولايات المتحدة الى الهند الى بلدان كثيرة عرفته دبلوماسياً وشاعراً وإنساناً قبل كل شيء.
محطات في حياته
يقول عبدالله يوركي حلاق في كتابه المعنون «عمر أبو ريشة حياته وشعره» إن شقيق أبو ريشة كتب إليه في رسالة مؤرخة في 13 حزيران 1991 قائلاً: ولد أخي عمر في دار جده بعكا في 10 نيسان 1910 قبيل الفجر ولما بشر جدي أن ابنته وضعت غلاماً سماه (عمر) وقربوه منه فأذن له في أذنه وهي عادة مستحبة ومألوفة في تونس عند شيوخ القوم، إذ إن جده من تونس، أمامنبج فهو البلد الذي عين فيه أبي (قائم مقام) بعد رجوعه من عكا أي حاكماً إدارياً أو مدير منطقة.
وعمر عربي خالص العروبة يملك كل مقوماتها ومزاياها الرفيعة من شجاعة ونجدة وكرم أخلاق وسخاء يد فلنسمعه يعرف نفسه بنفسه:
«أنا بدوي من عشيرة بدوية هي عشيرة الموالي من شيوخها من كبارها عند هذه العشيرة مميزات منها الكرم والرجولة لم يخضعوا يوماً لحكم، حتى الحكم التركي قاوموه، حارب جدي الأتراك فأخذوه الى استانبول.
يمتد نسب عمر الى ربيعة أمير عرب الشام في القرن السادس للهجرة.
بقي أن نعرف من أين جاءت هذه التسمية «أبو ريشة» يقول بعض من كتب عن عمر ومنهم الصديق الراحل المغفور له يعقوب العودات: أسرة أبو ريشة في الأصل فرع من آل القادري المعروفين في البقاع وتنتسب الى الشيخ علي القادري وهو أول من كني « بأبي ريشة» بعد أن خلع عليه أحد سلاطين بني عثمان عمامة تعلوها ريشة مذهبة.
درس عمر في صغره القرآن الكريم وتعلم الانكليزية في سن مبكرة، ثم انتقل مع أسرته الى حلب حيث راح يستكمل دراسته، ومن حلب توجه الى بيروت ودخل الجامعة الأميركية.
ثم أرسله والده الى مدينة مانشستر في انكلترا لدراسة الكيمياء ولكن الشعر كان يسري في دمه فأحبه ونظم أول قصائده عام1926 وعمره ست عشرة سنة.
الشاعر والمرأة
عرف عمر أبو ريشة أنه شاعر الإنسانية والحب والوطن عاش للجمال ونذر له الكثير من شعره وقد مرّ بالكثير من تجارب الحب وكانت أولى إخفاقاته حين توفيت حبيبته في لندن وكان قد عاد الى الوطن ليهيىء لخطوبتهما ومن المفيد أن نقف عند بعض ما كتبه أنور دومط عن الحب والمرأة في شعر أبي ريشة إذ يقول: هاهو ذا يقف في هيكل الحب مشدوداً الى كل شيء جميل مشدوهاً بكل هذا الجمال، فالحياة جميلة، يراها كذلك لأن أهلها عرفوا مكان جمالها، ولوجرى مايعكر صفو الجمال، ومن هذه المواقف يصوغ الشاعر إحساساته في قصائد أجمل ما قيل فيها قول الناقد مارون عبود إنها« أنين حب جريح وفيها أهازيج حب مظفر ربح معارك شتى وخرج من غبارها غير مشوه ولامهشم بجيش كجنح ليل بشار».
ففي رثاء الأخطل الصغير يقول عن الحب:
والحب قربنا منه وعلمنا
ماقدس الله لاما دنس البشر
هذا هو الحب الحقيقي، الحب المقدس الذي كانت المرأة فيه رمزاً للخصب والعطاء والأمومة وليست حاجة عابرة ككأس الماء تروي ظمأ العطشان، هكذا ترفع أبو ريشة عن مدعي الغزل من الشعراء ممن ينظمون جسم المرأة.
كلمات محددة لا تسمو بالروح وإنما تدور حول وصف الجسد من ساق وخصر ونهد، فالشاعر كنخاسي العصور الغابرة يعرض جمال المرأة كالحرافيش والقوادين وإن نطق شعراً، ويتابع أبوريشة قصيدته راسماً هذه الصورة الروحية الرائعة للحب:
الحب مجلى الله كم من عابد
ساهِ بهيكله الوضيء وساهر
ثم يخاطب الشاعر الأخطل:
غنيته لجماله وجلاله
وروته عنك حرائر الحرائر
مازال نعمته خبت نفحاتها
في كأس عربيد ومزهر فاجر
نرمي بمنسوب إليه وربما
ألفت تلاوته شفاه عواهر
لقد أصاب أبو ريشة في بيته الأخير في التفريق بين الشعر الغزلي وشعر الجنس، فهذا الشعر منسوب إلى الشعراء وليس من الشعر بشيء.
الهم الوطني والقومي
كان عمر أبو ريشة الشاعر الذي غمس إبداعه بهموم الوطن وآلامه حتى في أشد حالات الفرح عنده كان الوطن موجوداً ربط الماضي بالحاضر وهو الذي غنى الآلام يقول غسان كلاس: إن الشاعر تلمس آلام الأمة ونجد أن أبا ريشة يعبر عن تلك المنى التي ذاق الشعب حلاوتها بعد لهفة شديدة وأيام مريرة، وهو يبلغ حد مباركة الخطوب ويشير إلى أنه لولا تلك الآلام لما تحققت هذه الآمال:
لمت الآلام منا شملنا
ونمت ما بيننا من نسب
فإذا مصر أغاني جلق
وإذا بغداد نجوى يثرب
بورك الخطب فكم لف على
سهمه أشتات شعب مغضب
لقد أطال عمر وقفته في رحاب التاريخ العروبي المجيد وكان في رأيه من أهم المقومات المحركة لهذا الجيل الراكد الذي ابتلي بكل عوامل الضعف والتخلف وقد اقترن التاريخ عنده بالأصل العربي الذي كان فخر الشاعر به وأعلن اعتزازه الدائم بالانتماء إليه.
نبوءة الألم
وأبو ريشة الفنان المبدع كان رائداً حقيقياً لما هو قادم، فالأعراب الذين أتاهم المال على حين غرة تركوا القدس والمقدسات وغاصوا في الليالي الحمراء:
صاح يا عبد فرف الطيب
واستعر الكأس وضج المضجع
بدوي أورق الصخر له
وجرى بالسلسبيل البلقع
هانت الخيل على فرسانها
وانطوت تلك السيوف القطع
والخيام الشم مالت وهوت
وعوت فيها الرياح الأربع
قال يا حسناء ماشئت اطلبي
فكلانا بالغوالي مولع
أختك الشقراء مدت كفها
فاكتسى من كل نجم إصبع
وتلاشى الطيب من مخدعه
وتولاه السبات الممتع
والبطولات على غربتها
في مغانينا جياع خشع
هكذا تقتحم القدس على
غاصبيها هكذا تسترجع
نعم هذه هي حال البداوة التي أورقت له الصخور وضيع المال والكرامة ومعه الأعراب، ألم يقل أبو ريشة:
إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا
أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
خافوا على العار أن يمحى فكان لهم
على الرباط لدعم العار مؤتمر
صدقت أيها الشاعر الكبير وأنت القائل:
أمتي أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
لا يلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدو الغنم
Yomn.abbas@gmail.com