وحيث كانت نافذة الغرفة تواجه مدخل المبنى القديم للصحيفة،ولم يكن ليخطر ببالي يومذاك أني سأعبر هذا المدخل يومياً لبضع سنوات قادمة، قبل أن ينتقل مقر الصحيفة، ونحن معه، إلى مبناها الفسيح الحالي لأمضي فيه بعضاً من أهم سنوات حياتي..
لكن علاقتي مع الصحيفة لم تكن تقتصر على هذا.فخلال تلك الفترة أعتدت أن أذهب يومياً إلى المكتبة القريبة من القصر العدلي لشراء الصحيفة،وسط استغراب بعض زملاء العمل الذين كان أحدهم يكرر السؤال ذاته كل يوم: «ماذا الذي تجده في الجريدة؟» ثم يعقبه بطلب الاحتفاظ بها حتى يقرأها في البيت!!..ليعيد في اليوم التالي السؤال ذاته، والطلب ذاته، مما أتاح لي التعرف باكراً على ذلك النوع من الناس الذي سألتقي به مراراً في السنوات التالية، والذي يطلق أحكاماً مسبقة جاهزة على ما لا يعرف، و يواري كسله في المعرفة بنفي قيمة ما لا يريد (إجهاد نفسه) بالتعرف عليه..
بعد أسابيع قليلة من التخرج قرأت في الصحيفة إعلاناً عن مسابقة لاختيار محررين ومخرجين للجريدة، والإخراج الصحفي هو أحد مجالات العمل المتاحة أمام خريجي كلية الفنون الجميلة،وحين قدمت أوراقي،طلبت مني وثيقة التخرج ولم تكن قد صدرت بعد، فسألت الموظف عن الوظيفة التي يمكن أن أتقدم إليها بالشهادة الثانوية، فأجابني: محرر مساعد.قلت : فليكن.وبتلك الكلمة تبدل مسار حياتي كما كنت أفكر به، وتحدد لها مسار آخر لم أتوقعه يوماً..
في تلك اللحظة كنت أفكر بالدخول إلى الصحيفة بأي وظيفة كانت ثم أنتقل للعمل في الإخراج،لكن القدر كان له رأي آخر، فقد أحببت العمل كمحرر رغم أن عملي حدد في الأخبار المحلية،وهي أبعد ما يكون عن دراستي،وبعد وقت قصير تم نقلي إلى قسم التحقيقات، الذي صار فيما بعد قسم الاقتصاد والتنمية وكان ذلك مجالاً لم أهتم به يوماً،ومع ذلك فقد حرصت على التأقلم معه، ولم تمض بضعة أشهر حتى سميت معاوناً لرئيس القسم الذي شهد مرحلة ذهبية بتولي الزميل أسعد عبود رئاسته، حيث عمل الجميع كفريق عمل واحد وتناولنا ملفات حساسة،أحدها يوم تفاقمت أزمة الكهرباء في الثمانينات وشاعت فكرة أن السبب هو نقص الطاقات المتاحة، فتوزعنا على المحافظات السورية،وجلبنا من محطات التوليد الأرقام الحقيقية لطاقتها الإنتاجية، وللكميات المنتجة فعلاً، وكانت المفاجأة اكتشاف أن ما نملك من إمكانات يفوق احتياجاتنا واستهلاكنا، ولما نشر التحقيق توقف انقطاع الكهرباء فوراً، وتوقفت معه المطالب الملحة باستيراد محطات توليد على وجه السرعة !!..
لقد أتاح لي عملي في قسم الاقتصاد والتنمية التعرف عن قرب على كل بقعة في سورية،وكل مشروع اقتصادي أساسي..أتاح لي التعرف على سورية بشكل عميق وشامل،ومعرفة الكثير من مشاكلها وميزاتها الاقتصادية والاجتماعية .. ومن جهة ثانية حرر أسلوبي الكتابي من السرد الأدبي،والإطالة غير المبررة،لكن ذلك لم يخفف من رغبتي في العمل في المجال الثقافي، وقد كنت أنشر بين حين وآخر متابعات نقدية لبعض المعارض التشكيلية، ولم تتحقق رغبتي في الانتقال إلى القسم الثقافي إلا بطلب ملح من الزميلة نهلة كامل رئيسة القسم، استجاب له الأستاذ عميد خولي رئيس التحرير رغم انه كان يرى أن مكاني الطبيعي
في القسم الاقتصادي..ومع الزميلة نهلة كانت تجربة صحفية غنية ومثمرة، رغم أنها لم تستمر طويلاً بحكم تفرغها لعضوية المكتب التنفيذي لاتحاد الصحفيين، فتوليت رئاسة القسم بعدها عدة سنوات هي من أجمل سنوات حياتي المهنية، إلى أن تم نقلي إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون..
اليوم أعترف أنه حين صدر قرار نقلي شعرت بأسى كبير رغم أني نقلت إلى موقع أعلى، ففي الصحيفة كان هناك جو عمل حميمي،وكانت صداقات لا تعوض بدءاً من المراسلين وصولاً إلى رؤساء التحرير، وأتجنب ذكر الأسماء حتى لا أبخس أحد حقه،غير أني أشعر بعد ثماني عشرة سنة من مغادرة الصحيفة أني ما زلت واحداً من أسرة تحريرها، ويعزز شعوري العمود الأسبوعي العزيز على قلبي الذي أنشره فيها كل ثلاثاء..
ولا يبقى في هذا الحيز الذي يضيق على الذكريات والتداعيات إلا تهنئة الزملاء – الأصدقاء في الصحيفة بعيدها الذهبي، وتمنيي الخير والسعادة والنجاح لهم جميعاً.