وخمسة ملايين قوقازي وأربعة ملايين أوروبي لاسترقاق متوارث.
هذه الأرقام التي تثير المخاوف، دوّنها الأنثروبولوجي الفرنسي مالك شبل صاحب كتاب «الاسترقاق» الصادر عن دار فايار الفرنسية، كذلك الأمر بالنسبة إلى زميله نافيت أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة باماكو، والذي أصدر كتاب «الرقيق في القارة السوداء» عن دار هارتمان مؤخراً.
وقد ساق هذا الأخير أرقاماً جديدة تهز الوجدان، حين سجل نسبة 7% من سكان مالي يعيشون كرقيق أسود في بلاد تحظر ممارسة هذه التجارة رسمياً، لكن هذا الوباء لا يزال مستفحلاً اليوم في عشرات الدول الممتدة من موريتانيا حتى أندونيسيا. وكانت حكومة نواكشوط منذ أيام الاستعمار الفرنسي قد تبنت قانوناً يدين بالسجن إلى حد عشر سنوات كل مالك للرقيق، تم تثبيت القانون في آب عام 2007 رغم محاولات سابقة باءت بالفشل منذ العام 1981.
أما في الدول المجاورة لموريتانيا على غرار مالي والسنغال، فلا يزال نشاط هذه التجارة مستمراً منذ مطلع العصور الوسطى حتى اليوم، مع الذيول التي خلفتها تلك الممارسات على المجتمعات الأفريقية.
يقول نافيتا كيتا: «ويتجلى أثر هذا الموضوع في كثير من الأمور، فنجده في الموسيقا وفي القص الشعبي والأمثال والحكم وعند المغنين والعرافين وسواهم».
أصبح الاسترقاق اليوم في كل من النيجر ونيجيريا ومالي جريمة، منذ العام 2003، بحسب كيتا. أما في المملكة العربية السعودية فترجع إزالة الرق للعام 1962 نظرياً فقط، ولا يعود هذا الانتشار لثقافة قروسطية تروج لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، إنما لحاجة حكام هذه الممالك أو غيرها لعسكر وعمال وخدم يطيعون أمراء تلك البلدان.
بقيت تجارة الرقيق رائجة منذ القرن السابع للميلاد إلى الآن، تستقدم الرقيق من مناطق السواحل الأفريقية والقوقاز وجنوب شرق آسيا، لتمتد إلى مداري السرطان والجدي، انطلاقاً من الغزوات الاستعمارية الأوروبية لكل من موريتانيا ومالي وتشاد ونيجيريا وإثيوبيا والسودان والكونغو والصومال، واستطاع الاسترقاق الاستمرار خلال عصور الاستعمار الغربي، ليس فقط في أفريقيا، وإنما أيضاً في حوض المتوسط، ولم تبذل القوات الغربية الغازية أي جهد للقضاء على تلك الآفة على أرض الواقع، رغم إدانتها شكلياً لتلك الظاهرة المرضية، كما ينسحب هذا الاسترقاق إلى أندونيسيا مروراً بكل من باكستان والهند وبنغلاديش.
ويروي نافيت كيتا قصصاً حية سمعها من رقيق تم تحريرهم بصعوبة بالغة في مالي. يتحدث عدد منهم لهجة التاماشيك، وعدد آخر البمبارا، وحتى اللغة العربية. وقد تقدمت مجموعة منهم مؤخراً بشكوى أمام محاكم تمبكتو وغاو ومنكا ضد خاطفيهم الذين دفعوهم للاسترقاق، وذلك ما بين تشرين أول 2001 وآذار للعام 2012. وإحدى هذه الشكاوى تسرد قصة امرأة تدعى تاتشي تبلغ من العمر ثلاثين عاماً، تم استغلالها خلال عقدين من الزمن، دون أن تتمكن من الإفلات من قبضة أسيادها واسترجاع حريتها. وكانت رغبتها فقط الحصول على ابنتها عيشاتا التي تعيش في الأسر لدى سيدهما الثري المقيم في ضواحي مدينة تمبكتو.
أما القصة الثانية، فقد تناولت زميلتها توفناتيه، التي رفعت شكوى في شهر آذار عام 2012 ضد سيدها في غاوا. وتروي هذه العبدة التي يبلغ عمرها 48 عاماً قصتها في كتاب «الرقيق في القارة السوداء» كما يلي: «كنا نتلقى يومياً اللكمات والضرب دون سبب يذكر، ولم نلبس يوماً أنا وأطفالي ثوباً غير بالٍ. لقد أخضعونا منذ طفولتنا «أنا وأولادي» إلى أعمال تفوق طاقتنا وقدرتنا على التحمل، ومتى يشاء السيد كانت العصي الخشبية تنهال فوق ظهورنا دون رحمة، وكل طفلة تلدها أمها الجارية تصبح بدورها عبدة، مهما كان وضع والدها، حيث يتوارث الأسياد هؤلاء العبيد من جيل إلى آخر، حتى عندما يحصل العبد على حريته يبقى في عيون أسياده أقل مرتبة منهم، وذلك في كل من غورما وكيدال ونيورو الساحلية الأطلسية جنوب مالي».
أما في بنغلاديش وأندونيسيا وباكستان فللعبودية شكل آخر أكثر تطوراً، فالرقيق في تلك البقاع يحرك العجلة الاقتصادية ويصنع طبقة الأغنياء الجدد، مستخدماً المخدرات والأسلحة البيضاء وسواها لفرض وجوده على فئات مسحوقة من المعذبين والمحرومين.
وتتوقف مجموعة من القصص التي كتاب «الاسترقاق» عند كيفية قيام عصابات مأجورة بخطف النساء والأطفال في الأرياف والغابات الاستوائية لسوقهم إلى داكا مثلاً وبيعهم لمرابين يستثمرون في ورشات صناعة ألبسة قطنية جاهزة للتصدير، حيث يتدرب هؤلاء العبيد من الناشئة الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و13 عاماً على آلة نسيج قديمة مقابل إطعامهم وإيوائهم لا أكثر. وحين يتراجع عمل الحدث منهم، يحقن بالكودائين المستورد من شبه الجزيرة الهندية كي يعطي مردوداً أبر. وهكذا حتى يفقد هذا القاصر اليتيم قدرته على الإنتاج، ويتراجع حتى يصبح جيفة غير صالحة للخدمة.
ويملك ورشات الصناعات النسيجية تلك في بنغلاديش إقطاعيون أغنياء يسخرون مئات اليتامى في عمالة غير مأجورة، لتطوير منتجاتهم الزراعية والنسيجية، التي تدر عليهم الأموال. كذلك الأمر في صناعة أدوات الرياضة في المناطق الجبلية الفاصلة بين أفغانستان وباكستان؛ حيث تمارس هناك حياكة كرة القدم المصنعة يدوياً. وهذا ما يقوم به ناشئة لم يبلغوا سن الرشد لا أهل لهم سوى مالكيهم من الإقطاع.
ورغم أن وسائل الإعلام الغربية تعيد أسباب هذا الاسترقاق إلى الانفجار السكاني المستفحل في دول العالم الثالث، إلا أن الحقيقة على أرض الواقع، لا تمت لهذه الذريعة بصلة، لأن العبودية كانت وستبقى تجارة رائجة، طالما أن الحروب والاضطرابات الاجتماعية قائمة.