تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الموسيقا وحركة الوجود الإنساني

الملحق الثقافي
2-7-2013م
معين العماطوري:منذ إن وجد الإنسان على البسيطة وهو يعيش حالة من الإيقاع المنظم دون أن يدرك ماهية ذلك الإيقاع بل أدرك صيرورة حياته من

خلال الحركة والفعل، التي من شأنها أن تشكل إيقاعاً خاصاً وعلى أنغام خاصة تدخل في ميثولوجيا الإنسان التاريخي.‏

إذ تغمر الموسيقى الحياة بإيقاع الحركة، وروح التفاؤل والأمل، ولا يوجد إنسان موسيقي وآخر فقير في استعداداته الفنية، لأن الإنسان يولد موسيقياً في البداية، ثم تتحول هذه الموسيقى إلى طاقات مبدعة في مجالات متعددة للعلوم والفنون، لتثري أوجه الحياة المختلفة بالعمل المنوع. ويظل مع ذلك موسيقياً في مشاعره ونبضه وحركته وإيقاعه، حتى ولو تحول إلى مفكر أو عالم أو عامل أو صانع. لأن الإنسان له قلب ينبض بإيقاع دقيق، وأعضاء تتكامل في حركات إيقاعية متعددة ومتناسقة، ما دام حياً، كما أنه يتغنى بالحديث الجميل ذي النبرات الرنانة، والجمل المفيدة والمعلقة، والتعبير الحزين والمرح، والقوي والواهن، والمحب والمخيف، فاللغة موسيقى وإيقاع، وهي تعبر عن أوركسترا الجسم البشري بكافة آلاته ونبضاته وعطاءاته.‏

لقد اكتسب الإنسان الأول هذه الحقيقة في نفسه وفي مجتمعه وبيئته، فجعل من الموسيقى قوة هائلة تخفي وراءها أسرار الحياة التي يجهلها، فهي تغمر عالم السحر والأساطير، وهي وسيلة للعبادة والتقرب إلى الآلهة، وهي أيضاً رموز للحرب والعمل والتضامن، والترفيه والحب والسلم، وهي كذلك نبض الرقص والحركة، وتعبير عن النمو والحصاد.‏

وتطور الإنسان وزادت مدنيته في بقاع معينة من العالم، بينما بقي الإنسان الأول حتى يومنا هذا قريباً من الإنسان الذي عاش في العصور الحجرية الأولى، منحصراً في قبائل معينة في أواسط أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، غير أنه بقي موسيقياً كما كان دائماً.‏

ويظن الكثيرون أن هذه القبائل بعيدة عن فهم الموسيقى الحديثة المتطورة التي تعاقبت عليها العلوم الأوروبية، بعد أن صبت فيها الحضارات القديمة خلاصة تجاربها الرائدة.‏

وكانت التجربة.. وجاءت النتيجة مذهلة، فقد تذوق الإنسان البدائي الموسيقى العالمية المتطورة التي يعجز عن تذوقها الكثير من المتعلمين، بل العلماء المعاصرين من استشفاف نقاط الجمال فيها. فقد قامت جماعة من الباحثين في علوم الموسيقى بتكليف من منظمة اليونسكو العالمية، بعزف موسيقى بيتهوفن الرائعة، من تسجيلات موسيقية حديثة. قاموا بعزفها لجماعة من سكان أمريكا الجنوبية ينتمون لإحدى القبائل البدائية التي لم تختلط بالإنسان الحديث الغارق في المدنية. وراقبوا جيداً مدى جدية هذا الإنسان البدائي الأصيل، والقدر الذي انفعل به وهو يستمع إلى هذا اللون الغريب عليه من الموسيقى.‏

كانوا يستمعون باحترام كبير للأصوات، وبتركيز يندر أن نشهده في أعرق قاعات الكونسيرتو فى أوروبا وأمريكا. وظهرت الانفعالات على وجوههم، وقد أصبحت ملامحهم أليفة مطمئنة متأثرة. هكذا وصل بيتهوفن إلى رجال القبائل البدائية، لأنهم أقدر منا على استشفاف معاني الجمال، ولأنهم لا يمتلكون من الحياة سوى مميزاتها البدائية الأصيلة، ولم تلوثهم المدنية بضجيجها غير الطبيعي المدمر. كما لم يصبهم جنون العلم الذي يحشد المعلومات في العقول لينسي الإنسان الصفاء والجمال، والارتباط بالطبيعة، والجذور البشرية، وليخرج عن إيقاع نفسه الإنسانية إلى إيقاع الآلة وموسيقى رنين المادة، ظلت الموسيقا في مراتع زرقتها تسبح في فضاء المطلق تسقط أشعة نورها على ارواح احتملت خيوطها الذهبية.‏

ظهرت كتب عديدة في أوربا وأمريكا تبحث في أصالة الموسيقى البدائية، وذلك بعد أن اتجه أعظم المؤلفين الموسيقيين إلى تمجيد الإيقاع والألحان البسيطة، فقد بنى «سترافنسكي» جزءاً كبيراً من موسيقاه على ألحان الإنسان البدائي، واستمد أفكاره ونظرياته وتحليله لموسيقى القبائل البدائية الأفريقية والأمريكية. وجاءت موسيقاه المتطورة مرتبطة بشكل جذري ووثيق بكل من العلم الموسيقى الموروث من حضارة الموسيقى الأوروبية، والوجدان والنبض الإيقاعي النادر للإنسان الأول الأصيل.‏

وفي موسيقى الجاز، نجد التعبير التلقائي الارتجالي للزنوج الأمريكيين عن حنينهم إلى الحرية، بعد أن سلبتهم مدنية الرجل الأبيض حرية الحركة فى مجتمع طبيعي أصيل، يشكلون لبنة طبيعية فيه. ونجد الإيقاعات المرتبطة بالرقص التلقائي المعبر عن كافة مشاعرهم وآمالهم وآلامهم، هذا بالطبع إلى جانب ارتباطات هذا الفن بموسيقات أخرى. وهذه الجذور البدائية هي التي شكلت روح ونبض الجاز. ولذلك فقد نجح وشاع هذا الفن ودخل إلى كافة جوانب الموسيقى التي تمخضت عنها ذروة التقدم الموسيقي في الغرب والشرق.‏

وكان ذلك التقرب من الإنسان الأول بفنونه الأصيلة، وسيلة للتجديد في فنون البشرية الحديثة، بعد أن تحكم العقل في وجدان البشر، وبعد أن استنفذ الإنسان الفنان وسائل الابتكار والإبداع والتجديد.‏

إن الحضارة البشرية موجات متلاحقة، فيها الارتفاع وفيها الانخفاض، فيها العودة إلى القاع والصعود إلى الذروة. وكان لا بد للموسيقى الحديثة من العودة إلى الجذور لتستلهم الطريق إلى ما هو جديد، والبحث عن وسيلة لنجدة الإنسان المعاصر من ضغط العلم والمدنية على ضميره وعقله، دون أن يجد فرصة ليلتقط أنفاسه، أو ليلتقي مع الطبيعة الأم.‏

فحتى الطبيعة القريبة من المدنية قد شوهتها يد العمران والمدنية بالصقل والتهذيب، فهاجرت الطيور لتغني بعيداً في آفاق الحرية نشيد الحياة.‏

إذ ليس هناك ما يكذب التاريخ ومقولة “كيبلنغ”: «بأن الشرق شرق والغرب غرب، لا يلتقيان»، إلا أن العصر الحالي وتقارب المسافات واضمحلال الأمكنة، وانتشار وسائل الحضارة المصطنعة، الذي شكل أعنف هزة في كيان الشرق وصميمه، جعل الشرق يلتقي مع الغرب، لكن هذا اللقاء حفت به مشاكل وتيارات بالغة التعقيد والتداخل.‏

في العصر الذي حشدت شعوب الشرق كل قواها للتخلص من سلطة الاستعمار واحتكار الغرب، تواجهت مع التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي الأمر الذي فرض عليها تصاعدات ومواجهة جديدة بين الشرق والغرب، أدى لزعزعة مسلمات الشرق.‏

أخيراً هل يمكن للثورة الثالثة /الاتصالات/ أو المعلوماتية أن تعمل على المزج بين موسيقا الشرق والغرب دون تشويه لكليهما على حساب الآخر، وبقاء الصفاء والنقاء التي تتمتع بها كلتا الموسيقتين، النابعة من بيئة ملائمة لها ومن إبداع منسجم مع حركة واستمرار وجوده بعيداً عن تلاقح الحضارات وصراعها، بل العمل على نشر ثقافة الفن من أجل الفن؟‏

المصادر:‏

-الموسيقى العربية، موقع الالكتروني صادر عن المجمع العربي للموسيقا العربية.‏

-د. الخولي، سمحة، القومية في موسيقا القرن العشرين ضمن سلسلة عالم المعرفة ص266‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية