بنبضٍ يشي بمقدار الحيوية أو الخمول في ذاته.. نتعقّب أعماله إن استفزّت حواسنا، ونغوص في عوالمه ولاسيما تلك التي تحاكي عمق واقعنا.. نقرأه بشغفٍ ونتنفَّسه، فيواجهنا بهواءِ أحرفه:
«إن لم تتنفَّس عبر الكتابة، إن لم تصرخ في الكتابة، أو تغنّي في الكتابة، إذاً لا تكتب».
هذا ما واجهتنا به الكاتبة والناقدة «أناييس نين» إسبانية الجذور- فرنسية الثقافة- أمريكية الإقامة، ولدى قراءتنا ليومياتها، بل لهذيان ذاتها. الهذيان الذي اعترفت وهي تُلقي عنها ليلَ الأحلام، بأنها قد وجدت فيه جدواها ومعنى حياتها.
اعترفتْ بذلك عبر فلسفتها الإبداعية، وبمفرداتٍ خلاقة وحكيمة في دعوتها لتغيير العالم «من رثٍّ عتيق، إلى مثير للإبداع والعمل والرحلات والفنون والاندماج في تيار الزمن بوعي الواقع، والعلاقات الإنسانية».
إنها الدعوة التي ما أطلقتها إلا بعد أن تمرَّست في «رواية المستقبل» التي كشفت عن خبرتها بالتحليل النفسي، بل عن بصيـرة واعية وداعية إلى الانبثاق من النهار، وإلى الحياة ولو على «سلالم النار».
«يجب ألا تخاف، ألا تكبح نفسك، ألا تكون بخيلاً مع أفكاركَ ومشاعرك. إنها حقيقة بأن الخلق والإبداع لا يأتي إلّا من فيض. لذلك، يجب عليك أن تتعلم استيعاب نفسك، أن تتشرَّبها، أن تكون قادراً على تغذيتها، ألا تكون خائفاً من الامتلاء. إن شعور الامتلاء كالموجة العارمة، ذاك الذي يحملك، ويدفع بك بقوة نحو التجربة، ونحو الكتابة. اسمح لنفسكَ أن تتدفق، أن تفيض، اسمح لحرارتك أن ترتفع، بكل الامتدادات والقوى. شيءٌ ما يولدُ دوماً من الفيض»..
لاشكَّ أنها فلسفةُ مبدعة، لأنها كانت تشعر بأن الحياة الاعتيادية لا تروق لها، فقد سعت إلى الحياة الممتلئة التي أرادتها، ومن خلال «النفاذ إلى الأعماق بالدرجة ذاتها التي نتحرك فيها خارج ذواتنا».
نعم، هي فلسفةُ مبدعة لم تهنأ لها حياة، إلا بعد البحث عن الحقيقة « في وجهِ كائنٍ أو جماد، أو في صوتٍ. وجهُ الخوف والصوت الصادرُ حتى عن الأشجار مقطوعة الرؤوس في «بيت المحرمات».. الحقيقة التي أقلقتها فسألت عنها: «أهي وجهٌ آخر أم وجهُ الآخر؟.. الحقيقة موزعة فينا، وبيننا، وفي الآخر المختلف عنّا، في الأشياء وبينها كذلك، وفي الآخر الذي هو نحن، وفي الواصل الشفاف المتقصّف بين كل هذه الاختلاطات».
هكذا وجدت الحقيقة في انفصالها عن هذا العالم، واتصالها بالأجواء الحاضرة في زمنٍ وتفاصيل وأحداث «تشهِّد الحقيقة علينا بأننا، شهدناها نحنُ ولو في الخفيّ الكامن منا وفينا». الخفي الذي تعرفه ولا يعرفها، والذي تخاطبهُ سراً فتردُّ عنه بما ينصفها:
«هل ثمة من يعرف من أكون؟!.. حتى صوتي جاء من عوالم أخرى. كنت محنطة بهلوسات سريّة، معلقة فوق الكون. أنظر إلى الطريق التي سأجتازها دون أن أدوس ذرة من تراب أو عشبة واحدة. خطوتي كانت مرهفة الحسِّ، وأقل احتكاك بحصوات الطريق يمكن أن يُلجم مسيرتي».
هكذا هي الحياة لدى كاتبة أرادت ورغم كلّ الآلام التي فيها أن تعيش الجمال ولو بالخيال.. جمال أعمالها التي طيّرتها بأجنحةِ إبداعها وطارت معها، وبكلماتٍ وإن ابتسمت لها نفسها، إلا أن ما يقوله حدسها:
«أنا دمية شدتها أصابع غير مدربة، مُزِّقت ونزعت مني ذراعاي بقسوة. ذراعٌ ميتة، والأخرى تكتب بحماسٍ مفرط وسط الفراغ. أضحك، ليس عندما تتطابق كلماتي المكتوبة مع حديثي، بل حين تتطابق مع ما هو خفيّ تحت هذا الحديث.. ذراعاي دائماً مشدودتين وفي توقٍ شديد للعناق، أردت أن أحضن وأن أعانق الضوء والرياح والشمس والليل وكل العالم.. أردت أن أعانق، أن أداوي أن أهدهد وأن أحيط وأن أطوِّق، عانقت الكثير حتى انكسرت ذراعاي وانفصلت عني»..