لم يحاول المخرج دفعنا إلى تواطؤ ما أو تحريك فكرنا للبحث عن حلول إخراجية أو اكتشاف ما بعد الحبكة إنما أراحنا تماماً وأدخلنا في فرجة تخلو من فعل أو رد فعل.
ترك لنا هامشاً ربما وحيداً لنتخيل أشياء فظيعة ارتكبت بحق ماتا هاري بتعرضها لعمليات تعذيب جسدية وروحية من عشاقها إن كنت تبحث عن بريخت صاحب نظرية أن المسرح لا يفسر العالم إنما يدعو لتغييره فحتماً لا تجده في مسرح كفارنة.
إنه لا يأبه لمسرح الجمهور الخلاق والمتفاعل معه لا يبدو من ضمن اهتماماته لا يكترث كفارنة إن بقي المتفرج بحالة سلبية مكتفياً بالمشاهدة.
لا يعني ما سبق الدخول في قراءة لعرض كفارنة سلباً أو إيجابياً إنه اختياره لكن.
رفض بعض الحضور نصاً يحكي عن راقصة جاسوسة من عالم آخر /حرب عالمية أولى/ إنهم يريدون عرضاً يحكي عنهم يعبر عن واقعهم يحاكي تجربتهم اليومية لذلك انسحبوا.
حكاية ماتا هاري تسرد على المنصة بمعالجة درامية وضع لها كفارنة المخرج السينوغرافيا أيضاً فبدت مساحة تحرك عليها الـ 30 ممثلاً وممثلة... والراقصون والشخصيات الرئيسية بطبيعة الحال.. فبدا المكان متواضعاً وبسيطاً ومفهوماً.
و30 عاماً هي حياة ماتا هاري التي قضتها كراقصة وبعدها جاسوسة مزدوجة للألمان والفرنسيين تؤدي المراحل الأربع من حياة ماتا هاري /لانا شميط - روجينا رحمون - رنا ريشة - أمانة والي/.
بطبيعة الحال غابت الذرا الدرامية الساخنة وحضرت اللوحات الراقصة بتعبيراتها الداخلة في نسيج العمل دونما فذلكات أو استعراضات الكريغران لمعتز ملاطيه لي - الجاهر دوما لتوظيف اللوحات الراقصة بمكانها دون زيادة أو نقصان.
وتبقى القصة أو الحكاية التي وقعت بذهاب ماتا هاري إلى باريس 1903 بعد زواجها القسري بسبب حياتها التعيسة في أسرة تعاني أمها المرض وغياب الأب المهاجر.. لتزوج من رجل مدمن وزير نساء تنجب منه ابن وبنتاً يموت الطفل فتعزز هجر زوجها الذي يقايضها مقابل حريتها بابنتها ،تتركها مرغمة وتذهب إلى باريس لتصبح أشهر راقصة على مسارحها هناك تعمل لصالح الاستخبارات الألمانية مع نشوب الحرب العالمية الأولى ليتم تجنيدها كجاسوسة لصالح الألمان ضد الفرنسيين تتعرف إلى ضابط روسي تغرم به... تصبح عميلة مزدوجة لصالح الاستخبارات الفرنسية فيفتضح أمرها ويحكم عليها بالإعدام.
حكي أن العرض اعتبر مفاجأة للجمهور السوري على مستوى الجرأة وللأمانة فكفارنة تمكن بحرفية توظيف المشاهد الجريئة بشكل لا يثير الاستهجان فمشاهد العنف والحب والاغتصاب قدمت بمكانها وأدت وظيفتها بمناخات مشهدية بعيدة تماماً عن العبث أو الصخب المجاني.
الحيوية التي طبعت أداء كل من لانا شميط ورنا ريشة وروجينا رحمون اللواتي جسدن المراحل الثلاث من عمر ماتا هاري وتم الانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى بيسر وسهولة فلم نضيع أو نتوه في التفاصيل فكل شيء محسوب بدقة ألم أقل إن كفارنة لم يشأ أن يرهقنا.
عين الفجر - المعنى الحرفي لاسم ماتا هاري - واسمها الحقيقي مارغريتا غرترودا - الراقصة والجاسوسة الهولندية التي أعاد كتابة حياتها الكاتب المسرحي رياض عصمت عرفت طريقها للمخرج هشام كفارنة حيث إنهما يتقنان إعادة التاريخ كما هو على المنصة...
لكن أن نختصر حياة شخصية أثارت الكثير من اهتمام صناع السينما في العالم ورغم العدد الكبير للجواسيس في تلك الفترة إلا أن هشام كفارنة اختصر بساعة وعشرين دقيقة حياة ماتا هاري التي تمتد من عام 1876 - 1917 حيث اعدمت دون أن تشعر بملل فالشريط يمر بسلاسة ورشاقة دونما ضجر الحكاية دائماً تجد مؤدين ومشجعين ربما عرف هشام هذه الكيمياء بين الناس وحبها للمثير والغريب في قصص الآخرين.