فأَرى حولي كلَّ شئٍ يرفرف على أَجنحة السّعادة والدّعابة الرّقيقة والحبِّ المترف الذي يحيطني به أَبوايَ. كنت أَرى في أمّي وأَبي الملاكينِ اللّذين يحرسان من حولي نبضَ الحبِّ والحنان المتدفِّق. ويغرسان على ضِفاف جداولِ أَيّامي أَشتالَ الاعتزازِ والآمال العريضة بحياةٍ مفروشةٍ بأَزاهيرَ تفوق في جمالِها أَلوانَ قوس قزح، وتكلِّل تطلّعاتي نحو مستقبلٍ مفعمٍ بالأَحلام الورديّة.
ترى... هل كنت ساذَجةً؟ لست أَدري. كلّ ما أَعلمه أَنّني كنت مستسلمةً لِمفرداتِ الحياةِ الرّغيدة التي يحيطني بها أَبوايَ. لعلَّهما كانا يتسابقان لِنثر تلك المفردات في كلِّ نبضةٍ ونأمةٍ ومنعطفٍ في دقائِق أَيّامي. لم أَكن أَدري أَنَّ مفاجأَةً مرّةً قاصمة، بدأَت بذورها تنمو وتتطوَّر في أَعماقِ أَيّامي، وأَنا لاهيةٌ عنها، لا أَدري من أَمرِها شيئاً. كانت كَكرةِ الثّلج المتدحرجة ببطءٍ شديد. تكبر وتكبر ويزداد صلفها وعنفوانها من دون أَن يقفَ في طريقها أَحدٌ. شيءٌ واحدٌ كان يستوقِفني، فأَقف أَمامَه مستغربةً تائِهة. كنت أَنظر مليّاً في عيني أبي وأمّي صباحَ مساء. فأَرى أحياناً ملامحَ تَدفعني للارتياعِ والخوف فأصاب بالارتباك. لكنَّ أَزاهيرَ الحبِّ والحنان المتدفِّق الذي ينثال عليَّ في كلِّ لحظة، كان يبعِدني عن السّقوط في مستنقع الخوف والتَّساؤل. ويسوقني عبرَ مسارب الأَمل والارتياح والآمال الورديّة.
وحلَّ يومٌ لم يكن مفاجِئاً إلاّ لِي. أَمحلَت حديقة عمري، وتلاشَت أزاهير الأَمل.
البارحة.. كان يوماً ككلِّ الأَيّام المترفة. يحمل على جناحيه كلَّ معاني الأَحلام العذبة، وكلَّ أغنيات الحبِّ، واختلاجاتِ الآمالِ المجنَّحة.
اليوم.. كان كريهاً، مظلِماً، قاسياً. حوَّلَ جداوِلَ حياتي الرَّقراقة العذبة إلى مستنقعٍ آسنٍ. لعلَّه كان خلاصةَ الأَسرار الّتي تنمو من دون أَن أَدري بها. لعلَّ كرةَ الثّلج تدحرجَت كثيراً، فكَبرَت وكبرَت حتّى لم تعد تستطيع أَن تتدحرجَ أَكثر، فتوقَّفت لِتعلِنَ عن المفاجأَةِ المرّة.
البارحةَ... ما أَجملَ البارحةَ. كان يوماً رائِعاً وجميلاً جداً. خرجنا أَبي وأَنا والفرحة تعلو وجوهَنا إلى باحةِ الدّار، حيث الحديقة الجميلة التي استقبلتنا بِبشاشتِها المعهودة. هناك في رِحابِ الحديقة، بدأنا ببِناءِ رجلٍ ثلجيٍّ ضخمٍ. كان الثّلج الرّائِع قد توقَّفَ عن التَّساقط منذ لحظات، وقد كسا الكونَ وحديقتَنا الجميلةَ بثوبٍ أَبيضَ مدهش. تابَعنا بناءَ الرَّجلِ الثَّلجيّ بأَناةٍ وفنّيّةٍ ملفتة. البهجة تملأ قلبينا، وأَبي يحوطني بِدعاباتِهِ وعباراتِهِ الجذّابةِ المفرِحة. كنت أساعده في بناءِ الرّجلِ الثّلجيّ في كلِّ زاويةٍ منه. نضحك معاً، ونعتزّ بإِبداعنا الجميل. عندما انتهى عملنا الفنِّيّ، وقفنا متجاورينِ نرمق إنتاجَ أناملِنا الماهرة. مرَّت في خاطري لوحاتٌ وتماثيل فنّيّةٌ رائِعة. قلت لأَبي الّذي كان يغمرني بنظراتٍ عجزت عن فهمِ سِرِّها. صحت: «ما أَجملَ ما صنَعنا! أَنتَ فنّانٌ عظيمٌ يا أَبي».
أحاطَني أَبي بكلتا ذراعيه، طوَّقَ جسدي، رفعَني عن الأَرض وطبعَ على خدَّيَّ قبلةً ما تزال رعَشاتها تنبض في شراييني حتّى الآن.
ظلَلنا في باحةِ الّدّار وفي أحضان الثّلج فترةً طويلة. شعرت بعدَها أَنّني تحوَّلت إلى قطعةٍ جليديّة. استبدَّ البرد بكلِّ مفاصِلي، وتلعثَمَت كلماتي. قادَني أبي إلى الدَّاخل، وسريعاً ما أَشعلَ المِدفأَةَ الكبيرةَ، وقرَّبني منها قليلاً. أَقبلَت والدتي ومِن عينيها يشعّ حنانٌ أَلفته طويلاً، لفَّتني بِبطَّانيّةٍ دافِئَة وجلَسَت بجانِبي تمسح ظاهرَ كفَّيَّ وعنقي. تناوَلنا ليلتَها عشاءً خفيفاً جدّاً، حساءً ساخناً لذيذاً. ثمَّ خلَدَ كلٌّ مِنّا لِلرّاحة والاسترخاء.
عندما زارَني ملاك النّوم، وسيطرَت على مفاصلي علامات الاسترخاء، حملَني أَبي بين ذراعيه. حاولت أَن أَرفضَ، لكنَّه أَصرَّ، وسارَ بي نحوَ غرفتي ودسَّني في فراشي، وطبعَ على جبيني قبلةً سريعةً وقالَ هامساً كعادتِهِ في كلِّ ليلة: «ليلة سعيدة يا غزالَتي الصّغيرة».
كان ذلك البارحة.. يومٌ مترفٌ بالسّعادة والهناء والآمال.
أَمّا اليوم.. اليوم.. يومٌ كريهٌ مشبعٌ بالخيبةِ ونفاياتِ الحياةِ الآسنة.
استيقظت صباحاً. وما تزال ذكريات البارحة الجميلة، وقبلة أبي، وعبارته الحلوة، ولمَسات أمّي الدّافِئَة تنبض في دمي. نفضت عنّي غبارَ النّوم، خرجت من غرفتي على صوتِ جلَبَةٍ وحركاتٍ غير مألوفة. نظرت مشدوهةً. تلفَّتّ حولِي بأَعصابَ تائِهةٍ. كانت هناك قربَ مدخلِ البيت الرَّئيس شاحنةٌ صغيرةٌ. هالَني الأَمر! اقتربت أَكثرَ ونظرت نظراتٍ بلهاء. كانت أَمتعة أَبي الخاصَّة تنتقِل منَ بيتِنا وترمى كيفما اتّفَق في مستودعِ الشّاحنة. صرخت كالمجنونة: «ماذا يجري!؟ ما معنى هذا؟!». لحظتَئِذٍ. لم أَرَ أمّي.. أينَ توارَت؟ لست أدري. اقتربَ منّي أَبي متمهِّلاً. الابتسامة المألوفة غاضَت من وجهِه. كلّ شيءٍ بدا لي مغايراً. أَخذني أَبي بين ذراعيه، ضمَّني بِلطفٍ، وضعَني على صدرهِ طويلاً، ثمّ همسَ بصوتٍ مضطرِبٍ: «أَستودعكِ اللّه يا غزالَتي الصّغيرة. أَرجو أَن أَراكِ غداً». لم يضِف أَبي كلمةً أخرى. لم يبكِ. لكنَّ عينيهِ قالَتا كلَّ شيءٍ. صرخت بوحشيّة: «إلى أَين.. ماذا يعني؟». تسمَّرَت نظرات أَبي على وجهي لحظاتٍ لست أَدري مداها. أذابتني نظراته. وضعَ يدَه على كتفي وقالَ كلماتٍ مرتجفَة: «إِنّه الطّلاق.. لقد تطَلَّقنا.. سأغادر إلى بيتٍ آخر.. سأَترككِ مع أمِّكَ.. لا تجزَعي يا حبيبَتي.. أَرجو أَن أَراكِ».
تجمَّدَ لساني عن الحركة. اصطكَّت ركبتايَ. شعرت أّنّ قلبي قد جحظَ وهبطَ مِن صدري. تسارَعَت دقّاته، وكدت أَرتمي على الأَرض. تخثَّرَ الدَّمع في مقلتَيَّ وتثلَّجَت أَطرافي. بكى داخلي بكاءً مرّاً لا عهدَ لي به من قبل. تقيَّات كلَّ سعادَتي السّابقة. تلفَّتّ حولي بِأَسى: «لقد غادرَ أبي، فأَين أنتِ يا أمّي؟». لم أَجِد أَحداً. بتثاقلٍ وإِرهاقٍ شديدين، عدت إِلى غرفتي. ارتميت على سريري. احتضَنت المخدَّةَ، هصرتها بشراسة. أريد أَن اَصرخَ. أَن أَبكي. لكنَّ دموعي تحجَّرَت في عينيَّ، وانتصبَ في خبيئَتي أَلف سؤألٍ وسؤَال.
دلَفَت أمّي إِلى غرفتي. لمحت في عينيها آثارَ دموعٍ آنيّة. جفافٌ في الشَّفتين وشحوبٌ في خدَّيها. نظَرَت إليَّ طويلاً، تلجلجَت شفتاها: «إنّه الطَّلاق. عليكِ أَن تألفي هذه الحالة». صحت من أَعماقي من دون أَن أَدري: «لا..لا.. لن آلَفَ ذلك.. لماذا.. لماذا؟». لم تجب أمّي. قالَت لي بعد صمتٍ حزين: «ستدخلين مدرسةً داخليّة، كي يتاحَ لي أَن أَذهبَ إلى عملي. وستأتينَ إليَّ في عطلةِ نهايةِ الأسبوع. سيأتي أَبوكِ لِرؤيتِكِ هنا. وقد تذهبين لزيارتِهِ في بيتِهِ الجديد».
قالَت أمّي ذلك واستسلمَت لِبكاءٍ أَشبهَ بالنّحيب، ثمَّ غادرَت غرفَتي وتركتني أَمضغ هواجسي وأَحزاني العميقة.
لست أَدري كم بقيت أَتقلَّب على جمرِ المفاجأَةِ المرَّة. جاءَت أمّي بعد ساعاتٍ. كانت هي الأخرى تلوك خيبَتَها وآلامَها. نظرَت إليَّ طويلاً. حاولَت أَن تبتسمَ، إلاّ أَنّها أَخفقَت. صِحت في وجهِها من جديد: «لِماذا.. لِماذا؟». لم تجِب أمّي بشيءٍ. لعلَّها لم تكن تملك جواباً. اقترَبَت منّي. مسحَت على رأسي وشعري بيديها الباردتين. قالَت لي بصوتٍ يشبه الهمسَ: «تعالَي يا حبيبتي. تعالَي لِنذهبَ معاً إلى مائِدةِ الغداء. أَلم تجوعي؟». أعرضت عنها. أَدرت وجهي جانباً. قلت لها: «لا أريد. لن أتغدّى». ضمَّتني إلى صدرها. ارتعشَ جسدي. خفقَ قلبي. تحرَّكت في أعصابي مشاعر دفينة. كنت أخشى على أمّي من صدمةٍ أَكثرَ خطراً ونهايةٍ أَشدَّ إيلاماً. استجبت لطلَبها من دون رغبةٍ منّي. قادتني أمّي إلى غرفةِ الطّعام. جلسَت قبالَتي، وتسمَّرَت عينايَ على المَقعدِ الخالي بجانبي. إِنّه مَقعد أَبي. حاولت أَن ألهيَ معدتي المتشنِّجة ببعضِ اللّقيمات فلم أَستطع. بقيت بلا غداءٍ. وكذلك فعلَت أمّي.
بقينا جالستينِ نقضم الأَلم. الصَّمت الثَّقيل يجلِّل جلستَنا. عيوننا لا تلتقي إلاّ نادراً. شعرت أَنّ اللّعابَ قد تخثَّرَ في حلقي، وقلبي يخفق ببطءٍ شديد. استطالَت جِلسَتنا المَقيتة، وصمتنا الغبيّ. كنت أَبحث عن شيءٍ يستردّ لي أمّي. انقضى النّهار، وبدأَ الّليل يزرع سوادَه في كبد البيت الحزين. كنت أَخاف العودةَ إلى غرفتي. أَخشى اللّيلَ. أَخشى الوحدةَ. أخشى الهواجسَ. أَخشى كلَّ شيءٍ.
قفزت عن مَقعدي هلِعةً. توقَّفَ قلبي عن خفقانهِ البطيء. لقد رنَّ جرس الهاتف. لقد رنَّ هذه المرَّةَ رنيناً مزعجاً لم أَكن آلفه من قبل. استمرَّ يرنّ ويرنّ. شعرت أَنّ أَعصابي تخور وتفقد كلَّ إِحساسٍ بما حولَها. أمّي لم تتحرَّك. لم تمتدَّ يدها إِلى سمّاعةِ الهاتف، بل تسمَّرَت عيناها عليه. استدرت جانباً مِن دون أَن أَدري. مدَدت إلى الهاتفِ يداً كسولَة، وقلت بصوتٍ مرتجِف: أَلو... مَن؟
جحظَت عينايَ في محجريهما. تسارعَت دقّات قلبي. كادتِ السَّمَّاعة تفلِت مِن كفّي، وندَّت عنّي صرخةٌ مرتجفة: «أبي.. أبي.. أَينَ أَنت؟». جاءَني صوته هادِئاً رصيناً مشوباً بكثيرٍ من الأَسى: «أَرغب أَن أَراكِ هنا في عطلةِ نهايةِ الأسبوع. عندي حديقةٌ جميلة. ستستمتعينَ بها ونتغدّى معاً». أَجبته بنزقٍ شديد: «لا أَرغب في شيءٍ. لا أَرغب في شيء». أَجابَني بهدوءٍ أَكثر. تخيَّلت أَنّه يبتسم لي ويضمّني بين ذراعيه: «فكِّري جيّداً يا غزالتي الصّغيرة، فأَنا مشتاقٌ إِليكِ. ليلة سعيدة يا غزالَتي الصّغيرة». وأَغلقَ الهاتف.
قضيت ليلَتي مسهَّدةً. لم يعرفِ النّوم إلى عينيَّ سبيلاً، ورحت أَتقلّب في أحضان الهواجسِ والتَّداعياتِ المرَّة.
عندما انزاحَ الّليل الثّقيل، وأَرسلتِ الشّمس أولى خصلاتِها الذَّهبيّة لِتطرقَ زجاجَ شبّاكِ غرفتي، كان السّؤَال الصَّعب يغزو ذهنيَ المكدود:
اليومَ قبل البارحة كان أجملَ يومٍ في حياتي.
البارحة كان يوماً كريهاً مؤلِماً.
ترى.. كيفَ ستكون الأَيّام المقبلة؟