خاصة وإنهم عمدوا على تطوير الموسيقا العربية من خلال نفسها بالعزف والإبداع وتقديم كل ما يحمل الذائقة الرفيعة لهذا النوع من الفن، ومن هؤلاء العارفين الموسيقي المبدع «توفيق الصباغ» الملقب بملك الكمان، إذ كنا قد أشرنا في مقال لنا سابقاً عن أمير الكمان «سامي الشوا» بعنوان /سامي الشوا... عندما تصبح الموسيقا عشقاً وحلماً/، واليوم لابد لنا من التحدث عن الملك... أي ملك الكمان /توفيق فتح الله الصباغ 1892- 1964/.
يشير الباحث الموسيقي العلامة الدكتور «محمود أحمد الحفني» في كتابه «علم الآلات الموسيقية» إلى أن الآلات ذات الأوتار المطلقة تعتبر من أقدم الآلات، لأن كل وتر فيها يخصص لدرجة صوتية واحدة من درجات السلم الموسيقي، وقد عرفت الممالك القديمة في مصر وأشور وبابل من تلك الآلات «الصنج، والكنارة، والأشور»، وانحدرت من تلك الآلات القديمة آلات القانون والسنطور التي تعتبر من أهم آلات الموسيقى العربية، وقد شكلت إقبالاً كبيراً عند معظم شعوب العالم سيما بعد أن منحها الموسيقار الإيطالي «منتفردي 1567-1643» السيادة على آلات الاوركسترا فيما وضعه من الأوبرات التي سار على نهجه فيها جميع معاصريه ومن جاؤوا بعده، وأصبحت الفرق الموسيقية تعتمد عليها، حتى ليبلغ عدد آلات الكمان وفصيلتها في الفرق السيمفونية حوالي نصف المجموع الكلي للآلات جميعها. وأصبح الرباعي الوتري في موسيقى الحجرة يعتمد على أسرة هذه الآلة.
أردت من سرد أهمية آلة الكمان في الموسيقا العربية لما قدمته من ألحان وأعمال على أيدي كبار العازفين وأهمهم في القرن الماضي على الإطلاق الموسيقار «توفيق فتح الله الصباغ» الملقب بملك الكمان.
يذكر أستاذنا الكبير والناقد الموسيقي «صميم الشريف» في كتابه «الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ» أن الموسيقار «توفيق الصباغ» واحد من الموسيقيين القلائل الذين أرادوا حريتهم بعيداً عن الجماهيرية، حيث يقول «الشريف»: هو ألمع المؤلفين الموسيقيين الذين انصرفوا إلى الموسيقا من دون الغناء الثلاثي الكبير «توفيق الصباغ، وجميل عويس، وشفيق شبيب»، وقد نجد عند هؤلاء أعمالاً غنائية، أما «الصباغ» فلا نجد بين آثاره عملاً غنائياً واحداً وهو أغزر هذا الثلاثي إنتاجاً، إذ كتب في كل القوالب الشرقية بدءاً من البشرف، والسماعي واللونغا مروراً الفانتازي والرقصات وانتهاء بالدولاب والتحميلة، وهو بحق ملك الكمان والأنغام وسيدها المطلق، وإذا كانت الظروف، قد أحلت مواطنه الحلبي «سامي الشوا» في مركز الصدارة فإن العازفين والضالعين ببواطن الفن وخفاياه يقولون بأفضليته على «الشوا» في هذا المضمار.
لعل زمن الذي جمع الموسيقيين «الصباغ والشوا» يحمل أبعاداً فكرية وثقافية موسيقية ولكن الفاصل بينهما كان مشاركتهما في مؤتمر الموسيقى عام 1932 اللذين عمدا خوض معركة موسيقية من خلال تدريب الفرقة السورية، إذ لو قيض للتباين العلمي بين المستويين لوجدنا أن الصباغ يقف على القمة والشوا عند الدرجة الأولى التي تقود إليها، ذلك لأن الصباغ يعتبر من النخبة المثقفة حيث جمع بين الثقافة الموسيقية والثقافة الفكرية ومن يستمع إلى أعماله يلمس ذلك تماماً بأبعاده الفنية وجمله الموسيقية الحاملة عبق الثقافة.
شارك «الصباغ» جدياً في توضيح علم الموسيقا، وكتب أبحاثاً لطلابها، حيث شارك في مؤتمر عام 1932 ببحث عن الأصوات في السلم الموسيقي العربي، تضمن أن السلم الموسيقي العربي يحوي خمس أصوات وخمسة أسداس 6/5 الصوت، وليس على ستة أصوات كاملة، حيث يذكر ذلك في كتابه /تعليم الفنون/ بأن السلم الموسيقي المستعمل في مصر مؤلف من 24 درجة، هي 24 ربعاً أي ستة مقامات كاملة... في حين أن عدة براهين حسابية وهندسية وسمعية تثبت في نظر «الصباغ» أن السلم اقل من ستة مقامات كاملة. بمعنى أن السلم الموسيقي في نظره يحوي على خمسة مقامات وخمس أسداس 6/5 المقام، مورداً حسابه على الطريقة اليونانية القديمة بالدقائق إذ لكل مقام اثنتا عشرة دقيقة.
أما في كتابه «الدليل الموسيقي العام» يعمل الصباغ على اصطناع حساب وقياسات فيثاغورية، فيثبت جدولاً بحساب سلم عربي قائم على حساب الكومات، وهي عنده ثلاث وخمسون كوما، ذلك أنه ينطلق من مبدأ السلم الفيثاغوري نفسه الذي يقرر أن السلم يتألف من خمسة أبعاد كاملة، كل منها درجة صوتية، ثم بعدين كل منهما ليما، فإذا تم حساب الدرجات الصوتية الكاملة تسع كومات، والليما أربع كومات، كما هو مطرد منذ القدم، كان السلم يحوي على 53 كوما، وهذا ما أكده الصباغ في كتابه «الدليل الموسيقي» بأن السلم العربي 53 كوما مثبت درجاته وحساباته واهتزازات ونسب طول الوتر، لأن هذه الدرجات بنظره في السلم الموسيقي العربي 19 درجة غير متساوية في الأبعاد.
من يتتبع الموسيقار المبدع «توفيق الصباغ» يشعر بأنه ركز بشكل رئيس على حرية الموسيقي بعيداً عن الجمهور، مفضلاً الغناء القديم، والطرب والتطريب، بميله جماهيرياً نحو التقاسيم بوصفه ملك الكمان وهذا اللقب منحه إياه الجماهير التي وجدت في عزفه خرقاً غير عادي للعازفين على آلة الكمان، لتمكنه من عزف القطع الموسيقية بإصبع واحدة وعلى وتر واحد، ورغم ما تميز به أمير الكمان «سامي الشوا» بعزفه، ظل ملك الكمان يتميز عن الأمير، أما اختراعه الموسيقي الذي لم يكتمل بإظهار الصوتين معاً القرار والجواب ولم يعرف عنه شيء حتى تاريخه.
يؤكد «الصباغ» باستخدام الطريقة الشرقية على الغربية بتعلم العزف على الكمان حرصاً على الأذن والأصابع في الأسلوب الغربي، مؤكداً أن التقاسيم الشرقية وتمريناتها تفوق الأسلوب الغربي، ولهذا ترى كيف عمل على تخلص الكمان من الطريقة التركية في ضبط أوتارها إلى العربية فجعل أوتار الكمان على النحو التالي «صول، ره، صول، ره» في الأوتار المطلقة، وهذه الطريقة هي المستخدمة في سورية.
الجدير بالذكر أن الموسيقار «توفيق فتح الله صباغ « ولد في حلب عام 1892، حيث تلقى علومه في مدرسة الروم الكاثوليك، فأجاد اللغتين العربية والفرنسية والخط والموسيقا اليونانية، وفي عام 1912 غادر حلب وتنقّل بين مصر والسودان، ثم عاد إلى حلب عام 1921، وفي عام 1924 انتقل إلى دمشق، بعد وفاة ابنه وزوجته، أسس في عام 1966 النادي الموسيقي الشرقي السوري، ثم أسس أول نقابة موسيقية في سورية، أغلقت بعد فترة قصيرة بسبب الاستعمار الفرنسي، وعمل في وزارة المعارف فعيّن أستاذاً للموسيقا في دار المعلمات وبعض المدارس في دمشق، ضبط أوتار الكمان لتتلاءم مع موسيقى التخت الشرقي على النحو التالي «صول، ره، صول، دو»، ومن أهم مؤلفاته الموسيقية مقطوعة «عواطف» مقطوعة تجمع بين الموسيقتين الغربية و الشرقية وهي تصلح لجوقة كاملة «أوركسترا» ولكي لا يختفي الطابع الشرقي من المقطوعة و ضعت لها هارموني بسيط، وكتب العديد من المقطوعات الموسيقية في كل القوالب الشرقية، ولكنه لم يعمل على تسجيلها كلها على أسطوانات، وتوفي عام 1964، كما كتب عدة كتب عن الموسيقا منها «تعليم الفنون» 1932، و»المجموعة الموسيقية»، و»الدليل الموسيقي العام» وموسوعة موسيقية – 1950، و»البشارف والسماعيات»، أما مؤلفاته الموسيقية فهي تقاسيم على مقام فرحفزا، مقطوعات الوداع، طلوع الفجر، الكمنجة تتكلم، سماعي حجاز كار، «بشرف جهاركاه»، «البشرف التوفيقي»، «سماعي عجم عشيران»، «سماعي صبا»، «سماعي بياتي»، «سماعي حجاز كار كردي»، «سماعي سيكاة»، «عواطف» مقطوعة موسيقية.
رحم الله الموسيقار الكبير «توفيق الصباغ»، ونحن نعيش مغبة اليوم الموسيقا العالمي الذي يصادف 26/ 6/ من كل عام ثمة سؤال يطرح على وزارة الثقافة لماذا لا تعيد إنتاج مؤلفات المبدعين والعمالقة الموسيقيين السوريين وإغناء المكتبة الموسيقية بمؤلفاتهم من جديد كي تكون الرافد للباحثين والمؤلفين وطلاب المعرفة الموسيقية؟ خاصة وإن الأحوج اليوم لتوثيق وتدوين موسيقانا من الغزو القادم الذي أصبح قاب قوسين بل أدنى في ظل ثورة المعلومات والاتصالات وكي لا نقول فاتنا قطار الزمن. لعل سؤالنا يحتاج إلى أذن صاغية آملين من الوزارة الجديدة أن يلقى صوتنا السمع في زحمة الضوضاء والضجيج.
المراجع:
الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ لمؤلفه صميم الشريف.
علم الآلات الموسيقية لمؤلفه الدكتور أحمد محمود الحفني.
الموسيقى في سورية لمؤلفه عدنان بن ذريل.