وفي هذا السياق قدم التخت قبل أيام وجيزة حفلة موسيقية غنائية أدى فيها بعض أغاني الراحلة «وردة الجزائرية»، تكريماً لمسيرتها الفنية الكبيرة على مسرح «الدراما» في دار الأوبرا الدمشقية، وبصوت المغنيتين «سيلفي سليمان وإيناس لطوف» استمعنا إلى أربع أغاني للمطربة الراحلة وهي «لولا الملامة، أكذب عليك، العيون السود، في يوم وليلة، وكما في كل حفلاته لم تخل هذه أيضاً من الموسيقا الآلية «الصرفة» حيث انتهت الحفلة ببانوراما موسيقية لأغاني وردة الجزائرية.
تقول رزان قصار عازفة الكمان والمديرة الإدارية الحالية للتخت «نحن فرقة نسائية موسيقية في سورية، ونتابع مشوارنا الفني منذ عام 2003 وقد قمنا بتكريم العديد من الفنانات والفنانين وذلك من خلال تخصيص حفلات لأداء أغانيهم، فقبل فترة كرمنا الراحلة سعاد محمد واليوم وردة الجزائرية وقريباً الموسيقي السوري عبد السلام سفر، ونحاول أن نقدم التراث كما هو بكل أمانة بدون تشويه، ما فعلناه هو زيادة الآلات على التخت حيث أضفنا الكمان والتشيللو وكونترباص».
وأردنا أن نستغل هذه الفرصة لكي نتحدث قليلاً عن مسيرة هذا التخت الذي يعتبر فريداً من نوعه في المنطقة كون كل أعضائه من الموسيقيات، وقبل أن ندخل إلى تفاصيل ما نريد قوله لا بد من مرور الكرام على تعريف التخت الشرقي ونشأته.
لمحة سريعة
يتغير لون الموسيقا ومذاقها من شعب لآخر، كل حسب طبيعته وحضارته والظروف التاريخية التي مر بها، ولكن تبقى الموسيقا لغة عالمية حتى لو تعدت اللغات لأن هذا الشكل الفني منه من يخاطب العقل مثل أغلب الأعمال الموسيقية الكلاسيكية الغربية ومنه من يخاطب العاطفة مثل أغلب المقطوعات الموسيقية الشرقية، ووجود الموسيقا يكون بوجود الآلات وهذه أيضاً تطورت بنسبة تطور الشعوب، ونحن الشرقيين لنا آلاتنا التي يعتقد أو يجزم بعض الباحثين بأن كل ما نراه من آلات في الفرق الكلاسيكية الغربية والأوربية هي من أصول شرقية، فمثلاً يجدون في البيانو بأنه حالة متطورة من القانون، والفلوت والكلارينيت هما بالأصل آلة الناي وهكذا، والموسيقا العربية أو الشرقية تتكون من بعض الآلات التي تسمى بالتخت الشرقي الذي خرج من القصور الفارهة ومن السلملك والحرملك ليتنقل فيما بعد إلى عموم الناس، ويتألف من أربع آلات في الأصل، اثنتان منها وترية العود والقانون، والثالثة إيقاعية تسمى الدف، أما الرابعة فسميت بالشجية وتنتمي لآلات النفخ واسمها الناي، وأضيفت إليهما الآلة الخامسة والتي تنتمي للعائلة الغربية، لكنها تمتلك إحساس الشرق وعذوبته وأيضاً بإمكانها أن تؤدي أرباع الصوت «المكون الأساسي للموسيقا الشرقية» وتسمى الكمان، والتخت كلمة فارسية الأصل ومعناها «العرش»، لأن العازفين كانوا يجلسون على مكان مرتفع عن الأرض في أثناء العزف، وقد ظهر التخت العربي كفرقة موسيقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في عهد الأتراك، وأصبح نظاماً غنائياً موسيقياً منذ فترة العشرينيات من القرن الماضي، وكان لكل مطرب أو مطربة تخت مصاحب له مكون من خمسة لستة عازفين على الآلات الشرقية، واستمر هذا النظام إلى فترة الأربعينيات ونهايتها، وحول أصول التخت الشرقي الذي اختلفت حوله الآراء، حيث أرجعه البعض لعصر الفراعنة استدلالا بالنقوشات التي تجمع عددا قليلا من العازفين في مجلس واحد، وآخرين أرجعوه للفرس بسبب اسمه الفارسي، وعرف التخت الشرقي بأنه مجموعة منتقاة من العازفين تعمل على توصيل الأداء المهاري والفني المصاحب للمطرب والبطانة المصاحبة له، وظهرت أشكال مختلفة من التخت الشرقي منها ما سمي بالصحبجية، وهي عبارة عن تختين متقابلين يقوم أحدهما بالغناء في موضوع ما بشكل نقدي للواقع الموجود ويقوم التخت المقابل بالرد عليه أو هجائه كما كان يحدث مع الشعراء العرب في العصر الجاهلي من مديح وذم وهجاء، لكن هذه المرة في قوالب غنائية وهؤلاء الذي غنى لهم الشيخ سيد درويش «يا صحبجية أه ياللي منورين في القعدة تملي يا صحبجية.. حبة آهات على عين على ليل على ترللي». ولا ننسى العبقري أبو خليل القباني السوري الذي أدخل إلى المسرح تشكيلة موسيقية شرقية.
بداية المشوار
وفي العودة إلى سيرة التخت الشرقي النسائي السوري فقد بدأت فكرة تأسيسه عام 2003 حيث كانت الساحة الموسيقية السورية آنذاك تفتقر للأنشطة الموسيقية النسائية رغم وجود عازفات ذوات سوية عالية في الأداء التقني والحسي تخرجن من المعهد العالي للموسيقا، وفي تلك المرحلة اجتمعن وقررّن بعض الموسيقيات السوريات لتشكيل فرقة تحت عنوان «التخت الشرقي النسائي»، ومن البداية كان الدعم من الدكتور نبيل اللو الذي كان مديراً لدار الأوبرا في ذلك الوقت حيث شجع هذه الخطوة وفسح المجال لهن ليبدأ أول المشوار من خلال حفلة خارج سورية في «أمستردام» بمؤتمر الشرق الأوسط الموسيقي الذي كان برعاية الملكة الهولندية، ومن ثم خرج التخت إلى النور لتبدأ مرحلة النجاح.
وتقول عازفة القانون في التخت «ديمة موازيني» التي أدارت الفرقة إدارياً لفترة عن الغاية من تأسيس هذا التجمع: «من واجبنا نحن كموسيقيات أن نعبر عن أنفسنا وخصوصيات مجتمعنا وثقافتنا وفق أسلوبنا. باعتقادي إن فرقة التخت الشرقي النسائي السوري كانت منفذ للتعبير عن هذه الطموحات، أردنا أن نعيد صياغة تراثنا الموسيقي الشرقي بإحساس أنثوي ويبتعد كل البعد عن أي شكل من أشكال الابتذال السائد حالياً على الفضائيات نقدم موسيقى شرقية راقية الفكر والمحتوى، وأردنا أن نثبت لأنفسنا أولاً وللآخرين أن الأجيال دائماً تستسيغ الجيد وتفضله».
صياغة الموسيقا
ومن جانبها تقول عازفة الناي في الفرقة ومشرفتها «وفاء سفر»: «كانت الغاية من تأسيس فرقة «التخت الشرقي النسائي» أن نقدم للوسط الثقافي السوري والعربي مشروع فني إنساني نسائي يغطي مساحات موسيقية من تراثنا نعيد صياغته بإحساس أنثوي. نحاول أن نجمع عبره البراعة و التطلع المستمر نحو تقديم الأفضل. بذلك نثبت أن المرأة السورية «قادرة» على عزف موسيقا شرقية بإحساس راق، ولتغيير فكرة أن «الرجال وحدهم فقط القادرين على عزف مثل هذه الأنواع من الموسيقا».
تتالت نشاطات التخت الشرقي النسائي من خلال العديد من المشاركات ضمن مناسبات متنوعة خارج القطر. فقد مثلت سوريا في العديد من التظاهرات والأسابيع الثقافية السورية والمؤتمرات في اليونان «خلال زيارة السيد رئيس الجمهورية» في الصين «مسرح بكين الكبير» وألمانيا والإمارات العربية المتحدة وإيطاليا وتقول «سفر» عن حفلة إيطاليا: «كانت من أهم الحفلات التي أُقيمت بتاريخ الفرقة لأنها جاءت كرد على مقال صحفي نشره كاتب إيطالي ملخصه يدور عن أن المرأة السورية مثل المرأة الأفغانية تُعاني من الكبت ولا تأخذ مساحتها الحقيقية في المجتمع السوري، لذلك فإن وجود فرقتنا في إيطاليا غير الفكرة السائدة لدى المجتمعات الغربية بما يخص المرأة السورية، وكان إثبات على أنها قادرة وموجودة في الساحة الفنية».
كما جال التخت العديد من الدول العربية ليقدم ما وصلت إليه الموسيقيات السوريات مثل الأردن «مهرجان فوانيس» ولبنان «مسرح بابل» والبحرين «مهرجان الموسيقي الدولي وحفل خاص للعائلة المالكة» المحلي فقد قدمت الفرقة العديد من الحفلات على أهم المسارح السورية كدار الأسد للثقافة، ومكتبة الأسد، وقصر المؤتمرات، ومسرح كلية الفنون الجميلة، وعدد من المراكز الثقافية كالمركز الثقافي الفرنسي، والفلسطيني، ومكتب عنبر وبيت السباعي والقاعة الشامية في المتحف الوطني بدمشق، لهذه الفرقة دور كبير في نشر التراث الشرقي حيث تعنى بتقديم القوالب الموسيقية الكلاسيكية وإحياء التراث السوري والعربي بكافة أشكاله.
احترام المشاعر
تقول خصاب خالد «إيقاع» والمديرة الإدارية لفترة أيضاً: «منذ تم التفكير بتكوين هذه الفرقة، كان الهاجس الأكبر والأول هو التوجه إلى تلك الموسيقا التي ترتقي بالذوق وتحترم المشاعر والمتعة والعقل، في ظل ساحة تغصّ بالكثير من الشوائب على صعيد اللحن والكلمة، وكذلك تسليط الضوء على تراثنا الموسيقي الغني والعريق عبر إحياء قوالب موسيقية شرقية قديمة مثل «السماعي، اللونغا، التحميل، البشرف...»، ونحاول أن نكرس الموسيقا الشرقية والتراث في ظل حالة تنحو نحو التغريب بسبب العولمة، ولا أريد أن يُفهم من كلامي هذا بأنني ضد الموسيقا الغربية، فهناك موسيقا كلاسيكية ومعاصرة تحترم الذائقة بحق، لكن الخليط العجيب الذي نراه في راهننا يجعلنا نتوقف ونتساءل: أي موسيقا هذه التي تملأ فضاءنا بالضجيج!؟ لذا اتجهنا للموسيقا الشرقية، محاولين إبراز خصوصيتها وهويتها، ولسنا حبيسي التراث، بل هناك معزوفات معاصرة لمؤلفين معاصرين اشتغلوا بموسيقاهم في قوالب شرقية تحاكي التراث مثل: حسان سكاف، كمال سكيكر وغيرهما».
واعتادت الفرقة أن تحيي ذكرى يوم العالمي للمرأة في كل عام الذي يصادف الثامن من آذار، وفي هذا السياق تقول «موازيني»: «أصبح تقديم حفل في يوم المرأة العالمي تقليد سنوي للفرقة وللدار، نحاول تقديم صورة مشرفة عن نسيج المجتمع السوري وعن أفكارنا نحن كنساء عربيات، فاعتمدنا في كل عام على طرح فكرة معينة يعتمد عليه برنامج الحفل، فالسنة الماضية كانت الفكرة هي «الحياة رجل وامرأة» فاستضفنا مغني شاب في الحفل واخترنا المقطوعات الآلية ذات أسماء نسائية لمؤلفين شباب مثل «مقطوعة ليلى» لفريد الأطرش و»مقطوعة أمل» لعطية شرارة. في هذا العام اخترنا الحفل ليكون بعنوان نغمات فلسطينية على مقام دمشقي لنعبر عن تعاطفنا مع قضية شعب أحب الحياة».
حضور المرأة
كل واحدة في الفرقة حريصة على استمرارية الفرقة والارتقاء بأدائها وحضورها الجماهيري، لذا هي أشبه بورشة عمل دائمة، تنتقي البرامج وتتدرب وتعطي التخت من روحها ما تستطيع، لتستمر مسيرته، العمل في هذا التخت مشترك حتى نستطيع القول بأنه كلٌّ في واحد، وواحدٌ في كل.
تقول رحاب عازر عازفة العود: «فرقتنا من الفرق القليلة التي حافظت على استمراريتها، ولا نغيب على جمهورنا وحفلاتنا متقاربة وهذا الظهور يحسب لنا».
والتشكيلة النسائية للفرقة تضفي عليها طابع خاص، وبيان أن المرأة قادرة على إثبات حضورها في الساحة الموسيقية، هذه الساحة التي تغصّ بفرق الرجال، وفرق مختلطة، ومحاولة زرع بصمة لتخت نسائي طالما افتقرت له الساحة الثقافية العربية عامة والسورية خاصة.
تقول إيناس لطوف «غناء»: «أشارك بكل سعادة ومنذ ثلاث سنوات مع التخت الشرقي، قدمنا الكثير من الأغاني والعديد من القوالب الغنائية التي اعتبرتها تصقيل لما درسته في المعهد العالي، وكل ما درسته في المعهد العالي طبقته عملياً في بعض القطع هنا في التخت واعتبر نفسي من المحظوظين بوجودي في هذه الفرقة لأني استفدت منها في إطلالات عديدة واستطعت أن أجد هوية خاصة لي في الفرقة فهناك العديد يأتي ليسمع إيناس لطوف وهذا كله من فضل هذه الفرقة».
موسيقا لكل الناس
زيادة الطلب للفرقة والحضور الكثيف لحفلاتها وما كتب عنها في الصحافة الأجنبية والعربية، أعتقد أنه ينبئ عن استحسان واحترام لما تقدمه، حيث تصل موسيقاها إلى الجميع على اختلاف ثقافتهم لذا قد يحضرها الفلاح والعامل وسيدة البيت، كما يحضرها المؤلف الموسيقي والطبيب والمهندس، وأيضاً الشباب كما الكهول، فالمتعة والطرب والأصالة جمهورها واسع بلا شك.
تقول المغنية سيلفي سليمان: «بدأت التخت الشرقي النسائي مشوارها بالموسيقا الآلية لفترة عام وكنت أول مغنيات الفرقة بعدما قررت مؤسسات الفرقة انضمام الغناء، والفرقة لها أهمية كبيرة كونها الثانية عربياً والوحيدة سورياً، وأهمية الفرقة تكمن أيضاً كونها تعيد الطرب العربي الأصيل، واليوم أصبح لفرقتنا جمهورها الذي تغص الصالة بهم في كل حفلة».
وأخيراً، يتألف التخت من مجموعة العازفات السوريات وجمعهن من الدارسات في المعهد العالي للموسيقا وهن: ديمة موازيني «آلة القانون»، خصاب خالد «رق»، رزان قصار «كمان» المديرة الإدارية، رحاب عازار «عود»، وفاء سفر «ناي» المشرفة الفنية، هديل ميرخان «تشيللو»، رغد حداد «فيولا»، سناء وهبة «كونترباص»، والمغنيتين سيلفي سليمان و إيناس لطوف.