تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فلسفة الغرب تجاه الطبيعة

ملحق ثقافي
2012/7/3
د. عبد الهادي صالحة-لم يتوقف الشرق عن استهواء الغربيين. هذا الهوى الذي يبدو لنا أنه لا يمكن اختزاله لغواية وحيدة للسيطرة الاقتصادية السياسية للغرب على الشرق، التي قد نشتطها «نزعة الاستشراق»،

ويبدو لنا، تفسيران: أولاً- ما جرى للمحدثين تحت تأثير الثقافة الفاوستية يعني بما يسميه غوته من خلال فاوست «مبدأ الحياة»: الثورة والجهد الدائمين. يتعلق الأمر إذاً بروح الحداثة ذاتها. وهذا يتطابق أيضاً حول الحداثة وما يسميه «غير المنجز...»، أي الإرادة غير القابلة للانتهاء لكي تخرج من فضائها الجغرافي والثقافي عندما تنطلق إلى اكتشاف العالم.. تمثل الحداثة في أسسها القلق واللايقين. ويجد الغربي في الشرق ما لا يستطيع أبداً العثور عليه عنده: اليقين، يعني ما هو آت، النقطة الحاسمة للاختلاف الأساسي للغرب وللشرق.‏

في الواقع، إن إحدى الاختلافات الرئيسة للإنسان الغربي مع الإنسان الشرقي تسجل في سجل علاقتهما مع الطبيعة. إن الشرق، كما يصفه هيغل، ينبثق كقارة قائمة بحد ذاتها. وتبدو الوحدة النسبية للشرق أنها تتجاوز تنوعاتها الداخلية. إن الحضارتين الشرقية والغربية تقترحان نمطين من الناس. وتدخلان مفهومين للعالم، وكذلك تعريفين للطبيعة: إن عمل بيكون وديكارت كونا مفهوم الذات، وهما يقترحان سيرورة معرفة وعلم ويهدفان إلى «السيطرة على الطبيعة». هذه السيطرة كانت تبدو لمؤسسي الحداثة العنصر الضروري والمحتمل لتقدم العلم الحديث بأكمله.‏

لقد نظر الغرب إلى الكون والوجود نظرة منطقية عقلانية تحليلية ووقف عند الظواهر مشاهداً لها ومجرباً ومعللاً، وأقام بذلك بينه وبين الكائنات حاجزاً من قوانينه ونظرياته. لقد حاول فهم الحقيقة الخالدة «اللامتناهية» من خلال العقل القاصر العاجز عن إدراك الوحدة التي تشتمل الكون على اختلاف ظواهره وتعدد كائناته. يتعلق الأمر إذاً بتبعيته وباستلاب مزدوج. فهدف السيطرة على الطبيعة الذي يمهر بإمضائه سلطان الذاتية الحديثة التي تعيدنا إلى «سيطرة الإنسان على الإنسان» رسمت طريقاً خاصاً لتغيير العالم الخارجي وللسيطرة على الطبيعة بغية إرضاء حاجات الرغبات.‏

الشرق والطبيعة‏

لم تتجل الطبيعة في الشرق كهدف وكغرض للسيطرة. في الواقع، إن خيبة الأمل التي كانت في أساس تكوين الحداثة في الغرب لم تعرف تأثيراً حاسماً في الشرق، لأن هذا الأخير لم يعش القطيعة التاريخية بين الفلسفة والدين، مثلما كان مصير الحداثة الغربية. ولقد أصبح هذا الوضع الميزة العامة للشرق بأكمله. إذ أن هذا الشرق ينظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، فيدرك ذلك الجوهر بحدس مباشر يمزج ذاته مزجاً تفنى معه فردية الفرد لتصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم، وهذا ما يجعل منه فناناً يدرك الحقيقة بذوقه ويحس الكائنات بروحه. إن نظرة الشرق إلى الوجود هي نظرة الفنان المبدع. والفرق بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق هو نفسه الفرق بين العقل والوجدان، فلئن كان الغربي يحكم بالنتائج، فالشرقي يحكم بالشعور الراهن والوجدان العميق.‏

وإذا نظرنا إلى آسيا الشرقية، فإننا نقع على حقيقة أن الثقافة المسيطرة هي الثقافة الصينية «مع فروعها الكونفوشية والتاوية» وهي ثقافة عبادة الطبيعة؛ فالتاوية تقدم: «بصورة بناءة، رؤية للكون والإنسان باعتبارهما وحدة واحدة. والمعرفة الإنسانية تتجاوز حدود المدركات والتصورات، فهي مباشرة وفورية، ولا تعتمد على ثنائية زائفة بين الذات العارفة والموضوع المعروف».‏

يعيش الإنسان الشرقي الصيني في حالة انسجام وتناغم مع الطبيعة، ولهذا السبب يجب على «كل إنسان أن يعيش بانسجام مع السماء». إن هدف هذا الإنسان هو» تأمل الطبيعة» و»الذوبان فيها ليصبح «طبيعياً». ويرى بعض المفكرين أن الفكر الصيني الذي يقتضي قبول معايير الطبيعة و»إيقاعاتها أكثر من البحث عن السيطرة عليها وهزيمتها، فالطبيعة لا يمكن أن تحكم تبعاً لفائدتها للإنسان».‏

ترفض التاوية تطبيق علوم الطبيعة على رفاهية الإنسانية المادية بشكل صرف. ونحن لا نجد في أقوال حكيم الصين تعميمات نظرية مجردة، بل يكتفي بتصوير فني لفكرته. يقول كونفوشيوس: «إنه لا موضع لإنسان في المجتمع، إلا إذا درب نفسه أولاً على إدراك الجمال».‏

وفيما يخص الهند، نستطيع التأكد من وجود مذهب ميتافيزيائي مرتبط بالطبيعة. يشير جيداً أن المثل الأعلى للحكمة الهندية لا تتطلب ذاتاً بالمعنى الحديث للعبارة. فالطبيعة بالنسبة إلى الهنود تبدو جميلة جداً لدرجة أنهم يسمونها «مايا» يعني «سحر». الإنسان الصيني «مسحور بالطبيعة» وهو يسلم نفسه لتحمله تلك الطبيعة. أما في الهند فنجد وحدة الوجود بادية في كل كلمة ينطق بها الهندي وفي كل نفس يتنفسه، وهي بادية في دينه وأدبه، فالهندي نفسه يمتزج بمحيطه الطبيعي مزجاً. إن جوهر النفس الإنسانية هو الوجود العميق الصامت الكامن في دخيلة أنفسنا، وذلك هو «أتمان»- كما يسمونه – أو هو روح العالم كله، هو القوة الواحدة التي هي فوق جميع القوى – روح الثقافة الهندية تكمن في دمج الفرد في الكون دمجاً يزيل الفواصل التي تميز الفرد من محيطه. فإذا ما ذاب الفرد في الوجود، عندئذ يعود الجزء إلى الكل ويفنى في الكائن الواحد القدسي الذي هو فوق الجميع. وتلك هي النرفانا.‏

أما فيما يخص الإسلام، فإن التقليد الإسلامي لا يتناقض مع الفكر بالمعنى الديكارتي. وقد حافظ دائماً في القرآن على معناه العميق والقرآني، ولكن في العقلانية الديكارتية، هذا المعنى الخاص للفكر «يفقد مكانه ويحل محله العقل». وهكذا فالفكر الغربي الحديث هو فلسفي في أساسه، وهذه الفلسفة لا تعرف سوى العقل، في حين أن تاريخ الحضارة الإسلامية، لا يمثل الفلاسفة سوى جزء من المفكرين، والمفكرون الآخرون لا يسمحون أبداً للفكر الفلسفي أن يصبح مطلقاً. الطبيعة هي قبل كل شيء عمل الله. وهكذا، نستطيع فهم بعض العناصر الأساسية عن الاختلاف الجوهري بين الشرق والغرب.‏

في كل الحضارات الآسيوية لم يفكر الإنسان الشرقي ولم يرد معرفة الطبيعة انطلاقاً من ذاتيته الخاصة، لأن الانشقاق بين الإنسان والطبيعة كما نتحقق منها في تأسيس الحداثة لم تتحقق.‏

دل تاريخ الشرق عموماً والشرق الأوسط خصوصاً على مزج بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين حقيقة القلب وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل. إن تاريخ الفكر في الغرب – إلا أقله – هو تاريخ العقل النظري، وتاريخ الفكر في الشرق – إلا أقله – هو تاريخ الإدراك الصوفي والحاسة الجمالية.‏

ومن المعلوم، أن عصرنا هو عصر العولمة؛ إنها توقع نهاية نهائية لكل نمط استعماري. إن ظهور بعض البلدان الشرقية في إطار المنطق الدولي الجديد، والتي أنتجت تكوين ثلاثية عالمية، يعني الكتل الثلاث الأمريكية والأوربية والآسيوية، وأنهت السيطرة المطلقة للغرب. إن دخول آثار الحداثة في العالم تتجاوز من الآن فصاعداً مناطق التأثيرات الوحيدة المباشرة والتي يمكن مراقبتها من الغرب، وتعيد تنشيط القيم والثقافات. فالحداثة تتجاوز من الآن فصاعداً الغرب: هذا هو المعنى النهائي والمخرج الوحيد لعولمة الحداثة يعني الحركة الطبيعية لتوسيع الغرب على صعيد الكوكب. وتبدو هذه الظاهرة كنتيجة ذاتها لسقوط كل «حداثة استبدادية» في البلدان غير الحديثة تاريخياً.‏

في الواقع، نظن أن أزمة الهوية، قبل أن تكون، حسب بعض الناس، علامة «هشاشة ثقافية» للبلدان المسماة «عالم ثالث»، ربما يجب أن نعتبر ذلك كعلامة ذاتها مطالبة زواج تاريخي بين قيم الحداثة الغربية الغازية والتقليد، وهنا نستطيع أن نثبت فعلياً صورة حيوية ومهارة الثقافة الشرقية.‏

هذا الواقع يعيدنا إلى رفض نهائي لكل نزعة هيغلية للتاريخ التي تتصور وصول الأزمنة الحديثة كما لو كانت نهاية وموتاً نهائياً للحضارات الأخرى، فنحن في عصر ظهور جديد «لحضارات ميتة»! وإحياء للغرب المحتضر إن استيقظ من غفلته قبل فوات الأوان واستطاع إنقاذ حياته من الهلاك! إن أزمة الهوية تقودنا بشكل حتمي نحو تكوين غير مسبوق.‏

نستطيع القول إن العولمة تتخلى عن العالم في وضع لاعودة تاريخي. هذا الواقع يعمل بشكل ألا تكون أي عودة مكونة ومستمرة للتقليد. وربما لم يعد في استطاعة العالم تجاهل الحداثة. ولكن إذا قبلنا هذه الأطروحة، فقد رفضنا النزعة الهيغلية لعدم عودة تاريخي في الوقت ذاته؛ لأن في سجل الفلسفة التطورية تبدو لنا فكرة خلود الغرب وتفوقه الخالد في العالم هي فكرة مسجلة ويقينية، وهذا يتطابق مع وهم «الموت النهائي» للحضارات الأخرى. وبهذا المعنى فإن أي تكوين يمكن التفكير فيه قد لا يبدو ممكناً إلا انطلاقاً من الاعتراف بالعناصر المكونة لكل قارة ثقافية، ولم يعد ممكناً أيضاً نفي الحقائق الجغرافية والتاريخية والسياسية أو إلغاء وجود رؤى العالم وأنماط التفكير الخاصة بالقارات غير الحديثة تاريخياً.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية