تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ازدواجيـــة الثقافـــة بيــن الذاتــي والموضوعـــي

ثقافة
الاثنين 30-9-2019
عبد المعين زيتون

تعيش الأوساط والساحات الثقافية اليوم مايمكننا أن نسميه الغزو التكنولوجي الذي لم يعد يستثني أيا من مستويات الحياة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية بكل تنوعاتها ووظائفها وأهدافها ومخرجاتها،

حتى أن الثقافة في عالم اليوم أضحت صناعة بكل ما لكلمة الصناعة من مرام أو معنى.‏

وقد أصبحت هذه الصناعة تحظى باهتمامات متزايدة في السنوات الأخيرة، نظرا لما تتميز به من القدرة على تشكل وتشكيل العناصر الحية في العقل و بلورة الوعي الفردي والجمعي على السواء في المجتمعات الإنسانية كلها بصرف النظر عن معايير التقدم أو التخلف في هذه المجتمعات، وبمعزل عن أوضاعها ومستوياتها، ومٱلات مساراتها، أو هوياتها، وسماتها وخصوصياتها.‏

وبتعريف عام، فإن الصناعة الثقافية، هي كل الأدوات والوسائل والأجهزة المادية التي تندمج على نحو غير منضبط، مع الطاقات والقدرات والإمكانات البشرية في المجتمع، لتنتج وتجسم الآثار الفنية والإبداعية والمنتوجات الثقافية العامة على هيئة صور محسوسة، فتنسخها أو تنشرها، أو توزعها تبعا لمقاييس صناعية أو تجارية، بهدف معلن، هو التطوير، والتنمية الثقافية.‏

وغني عن القول إن الصناعة الثقافية، شأنها شأن كل أنواع ومقتضيات الصناعات الأخرى، فهي تستند إلى صناعات تحتية عامة وكبيرة، هي التي تحدد مدى تطورها، وأبعاد شخصيتها المستقلة، ومقدرتها على الحضور والفعل في منظومة المجتمعات وميادين الحياة العامة الأخرى فيها، لاسيما الحقلين الصناعي والتجاري في هذه المجتمعات.‏

وينبني هذا المصطلح (الصناعة الثقافية)، على الربط بين موضوعين متناقضين ظاهريا، الصناعة من جهة، والثقافة على الجهة الأخرى.‏

وتدل الصناعة بمفهومها العام، على المنتج الاستهلاكي، الذي يقدم النفع والغاية بصورة مباشرة، كالصناعات الغذائية، أو صناعة النسيج، أو الإسمنت، وغيرها من الصناعات المختلفة.‏

في حين أن الثقافة، على نحو ما، هي التي تعتمد الكلمة واللغة كحامل أساسي ينصرف إليه الذهن والوجدان الإنساني إلى المعرفة والإدراك، والتذوق والمتعة.‏

إن مفهوم الصناعة الثقافية يحشرنا في ازدواجية جديدة ليس بمقدورنا الهروب أو التهرب منها، وليس من مصلحة الثقافة نفسها هذا التهرب!وتنحصر هذه الازدواجية، بين الثقافة والتقنية، وبمعنى ٱخر، بين الذاتي والموضوعي.‏

والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها هي أننا أصبحنا أمام هذه الازدواجية اليوم، كنتيجة مباشرة للتحولات البنيوية الهائلة التي أصابت المجتمعات المعاصرة وهيكلياتها، ومستوياتها المتنوعة، بحيث لم يعد بإمكان أحد ما أيا كانت قدراته وإمكانياته، الفصل بين التطور والمنتج الإنساني الجديد المتمثل بالتكنولوجيا، لابل فقد أصبحت قوى المجتمع كلها هي المعنية في شد عرى الربط والترابط، بين التنمية من جهة، والتقنية من الجهة الأخرى.‏

وتبعا لرؤية المفكرين والفلاسفة الذين اشتغلوا على هذه القضية ولم يزالوا، فإن الأوضاع التي ٱلت إليها الثقافة، تثير جدالا واسعا بين أقطاب الصناعة الثقافية والمعنيين والمشتغلين بها، من جهة، وبين الاقتصاديين من جهة أخرى، وثمة منهم من يرى، أن علاقة الثقافة بالصناعة والتقنية والتكنولوجيا في المجتمعات المتطورة، مازالت علاقة ضبابية تبحث عن عنوان وهوية، لأنها علاقة دخلت في صميم الإشكاليات العامة في هذه المجتمعات، والثقافة فيها لاتزال تبحث عن مصيرها، وأهل هذه الرؤية يعتقدون، أن التطور الذي ٱلت إليه التكنولوجيا في البلدان المتقدمة أدى إلى ما اصطلحوا عليه بـ(الإفلاس الثقافي)، معتبرين أن المنتج الثقافي في هذه المجتمعات، قد ضاع في خضم المنتج السلعي الذي لايفرق أو يميز بين منتج وٱخر إلا من خلال قدرته على الحضور والمنافسة في الأسواق، وهذا يتوقف بالضرورة على مدى استجابة المنتج الثقافي لمتطلبات القيم الاقتصادية والتجارية، وذلك بصرف النظر عن طبيعة وخصوصية المنتج الثقافي ومقدرته، في الحفاظ على جوهره الإنساني والأخلاقي والمعرفي.‏

ولعلي أقرأ هنا السؤال التالي الذي يقفز إلى الخاطر: كيف يمكن أن يتحول الحدث الثقافي والتعبير الفني بكل تنوعاته وخصوصيته، إلى قيمة تجارية، على الرغم من أن اي حدث ثقافي، لايملك سلفا أي قدرة نقدية ليدخل الأسواق السلعية، في أي مجتمع إنساني، لينافس على خطى السلع والمنتجات الصناعية الأخرى؟!‏

والحقيقة التي تشق طريقها بصعوبة في هذا الخضم، هي رؤية الثقافة والنظر إليها ليس بوصفها سلعة رائجة أو تستهدف مفاهيم السوق، بقدر هاهي منتج إنساني لايقبل ترجمته وتحويله إلى نقد سلعي يخضع لذات الاعتبار، بل لابد من توظيف التقنية بكل وسائلها، لخدمة وتطوير المنتج الثقافي وتنميته.‏

وفي كل حال، فإن الثابت في هذه القضية (الصناعة الثقافية)، يتمثل في التطورات الهائلة، التقنية والتكنولوجية التي نعيشها في عالم اليوم، وهي التي أدخلت على الثقافة ومفهوماتها، هذا التشكيل الجديد والرؤى الجديدة التي جعلت المصير الثقافي برمته، رهينة الإمكانيات والقدرات المادية مابعد الحداثوية، التي تنتج المادة الثقافية وتلعب دورا بارزا في ترويجها وانتشارها.‏

ولعل السنوات المقبلة تحمل أجوبة ورؤى جديدة عن هذه الإشكالية التي ينتظرها العاملون في الحقول الثقافية والمعرفية المختلفة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية