حيث الرؤية الشعرية هنا تخترق الشكل والمحتوى والتقريرية المباشرة وصولاً إلى الرؤى الحلمية والخيالية التي تثير الإدهاش، بحركة الصور المتداخلة إلى حدود المتاهة، غلاف المجموعة والرسوم الداخلية لساحر الخط واللون والضوء الراحل الكبير عمر حمدي مالفا، الشيء الذي يعمل على تعزيز العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الفن التشكيلي والقصيدة الشعرية، حتى إنها ترسم بالكلمات: كي تنتفض الألوان في.. كي ترقد أصابعك بأمان.. لك أهدي هزائم كنت آخرها.. وكان قد حصل هذا التقارب من خلال كتابات عمر حمدي الشعرية، التي رأينا مختارات منها في الكتاب الذي صدر بمناسبة ذكرى رحيله الأولى، بإشراف هناء داوود وعرفان حمدي.
ولا شك في أن وجود نصوص شعرية، إلى جانب لوحات ورسومات حمدي، يساهم إلى حد بعيد في تقريب اللوحة من الجمهور العربي، الذي لم يعتد بعد على لغة الفن التشكيلي، فوجود عبارات أو نصوص شعرية مقروءة هنا، تساهم في جذب نوعية معينة من الجمهور، وتجعلها أكثر قدرة على التفاعل والتجاوب مع اللوحة، واستشراف هدفيتها وتعبيريتها الجمالية، رغم عدم مباشرتها الخطابية، ودخولها في الإطار التأويلي الشعري والفكري والفلسفي والوجداني والإنساني.
واللافت أن السواد يغلف مجموعتها، التي تحمل عتمة احزانها واحزاننا في ازمنة الحروب واهوالها،انه الأسود القاتم المقتطف من إطار الحزن والقلق والموت والانهزام، ولهذا أصدرت هذه المجموعة تحت عنوان: «أربعون هزيمة.. وأنا».. أنها هزيمة المتزمتين والمتخلفين والمتطرفين، وتجار الأسلحة، بحروبهم الدون كيشوتية.
وفي مجموعتها تبتعد كل البعد عن الإشارات الواقعية المباشرة، وتدخلنا في جوهر الحالة الرمزية وفي تخيلات الصور المكثفة، التي تروي في بعض فصولها مناخ الحكايات الميثولوجية الشرقية، عبر عناصر قديمة وحديثة معاً.
«أربعون هزيمة.. وأنا».. لم تكن هزيمتها فقط، وإنما كانت هزائم مجتمع يكتفي بالنوم على أمجاد الماضي، ويؤمن بمقولة: ليس في الإمكان أبدع مما كان، ومقولة: كما تدين تدان. فالأهوال تخفي الحقيقة،رغم لمعانها المتواصل في اشارات الرموز المنبثقة من معطيات الواقع المفجع والمؤلم: أعتذر من موتي.. غازلته كثيراً.. كثيرا.. أعدت له الموائد بألوان أشتهيها.. أعددتها.. لكنه لي أدار ظهره..
وتثير هناء داوود في رمزيتها الشعرية تساؤلات صوفية متجذرة في رموز علاقة الموت بالولادة، و تصل بالجوهر الإنساني إلى ضفاف الصورة المطهرة المستمدة من تلميحات الثقافة الشرقية ومنابعها الصوفية: أنا وأنت.. في زاوية ما من هذه البلاد.. أضرمنا ناراً في ارواحنا.. لعل الأوجاع ترحل عنا..لكن على أقدامنا هذه.. رحلنا نحوها تلك الليلة..
هكذا تظهر تأثيرات واقعنا الراهن في مجموعتها الشعرية، على اعتبار ان لهذا اللون علاقة بواقع الحروب والمجازر المتواصلة،ولهذا تتجه في أحيان كثيرة لإطلاق موقفها الساخط تجاه ما تشهده المدن العربية المحاصرة من مآسٍ تقدم يومياً باسم التمدن والحضارة: يدعي أن.. الدقائق تآمرت عليه..والعمر تآمر عليه.. والحياة والوطن والقضية متآمرة عليه.. الشمس والفصول.. هو والخيبة تآمرا علي..
ورغم كل الدلالات المأساوية المرافقة لصورها الشعرية، تبدو هناء منطلقة في كتاباتها في عالم الرومانسية والشاعرية، وهكذا يمكن استشفاف هواجسها الشعرية التي تدمج الرمز بالحلم،وبتموجات الحالة الداخلية والعاطفية: «أحتاجك كما يحتاج الله للصلاة.. كزهرة تحتاج الظل.. في انتصاف نهار صيفي يحترق.. أحتاج عينيك بيتاً صغيراً.. يلفني من ضيق الأرض.. وبعد السماء.. أحتاج أن أحبك..».
وهكذا تساهم في فتح النص الشعري، على الفن التشكيلي من الرسومات واللوحات المنشورة في مجال الرسم العفوي، وصياغة الاشكال المختصرة والمبسطة الى حدود الأداء التعبيري.
والقصيدة هي في النهاية صرخة رفض تعبر عن الحدة المأساوية التي تلف الواقع، فالاحساس بعمق الهزائم المتتالية سيد الموقف، رغم ما نستشفه من مساحات بيضاء تحاول من خلالها الانفلات من كل ما يسمى بكوابيس سوداوية فردية ومشتركة: تعيد النهارات ترتيبي.. كيفما يحلو لها.. ولهزائمي.. لاخترق الهدنة مع جسدي..
facebook.com adib.makhzoum