وما أصبحت جعبته مملوءة فيه اللهم إذا كان يبحث عن الحقائق الموجودة على الأرض, أو يبحث عن ما أصبحت تعانيه سورية من إرهاب منظّم ويتوزع بين إرهاب دولة, وإرهاب أفراد, وإرهابٍ مصدّرٍ أي عبر الدول المجاورة الضالعة في سفك الدم السوري.
ومن الطبيعي أن تتبدل رؤى الإبراهيمي جوهرياً باعتبار أن المسألة السورية لم تعد على برامج تستهدف الحرية والديمقراطية بمقدار ما أصبحت على الوجود الجيوتاريخي لسورية وعدمه. وهذا الحال – لو يعلمون- هو الذي جعل نسبة العقل والتعقّل عند السوريين تكبر, ولم تعد الاستنسابية عند بعض الجهات تغري الغالبية العظمى من الشعب طالما أن الشعب السوري قد وُضِعَ سلفاً في إهاب المرحلة القادمة , وأُعطي الفكرة مسبقاً عما ستدور حوله المصائر الموعود فيها وتأكد شعبنا- وخاصة في تحليله للمشهد المصري والتونسي والليبي – بأن الذي سيدخله فيه الربيع الصهيوأميركي هو جليد التحنيط التاريخي للوطن والناس, وأنفاق المجهول الوطني والسياسي التي لا خروج منها، ولا سيما حين يتلمس بكافة حواس الضمير السياسي عنده بأن المشروع المقدم لسورية آتٍ من الدوائر الأمروصهيوأوروبية, والشعب الذي خَبِرَ في تاريخه سايكس بيكو ووعد بلفور وتجلياتهما كيف عصفت بمشاريعه القومية والتوحيدية, وجعلته حتى هذه اللحظة تحت الاحتلال كُلاً أو جزءاً فكيف يأمن هذا الشعب للربيع الآتي من عند الأعداء, وبدائله لا تُطمئن لا في التوظيف السياسي لأن سورية تَقَرَّرَ لها سلفاً مَنْ يحكمها وكأن الشعب مُعَلَّبٌ في مستودعاتهم, أو الناس خُلِقَتْ لكي تُحكم من الخارج وحسب.
وبهذا تنتفي صورة المستقبل, فالمستقبل ليس بتدمير الدولة, وفتح السبيل نحو فوضى الحياة والزمان والقوى, وضرب أحلام الطفل السوري الذي قصفوا مدرسته, وقتلوه فيها. ومما شاهده المواطن الموعود بالحرية برزت الحقيقة بأجلى صورة لها حين دخلوا بيته عنوةً, وفتحوا الجدران لكي يقاتلوا الناس في الحي, وصار الجميع دروعاً بشرية فكانت الحرية القادمة لسورية في فهم المواطن المنكوب حرية التهجير, والقتل, والتدمير, وضرب كل الأحلام الوطنية.
وفي هذا التحليل لا نُعَبِّرُ عن وجهة نظر طرفٍ بل نعكس ما نراه يومياً عند جميع الأطراف, حيث إن التفجير في الحي، أو الشارع, أو المدرسة, أو قصف الذين على طوابير الخبز, والغاز, والمازوت لم يستهدف الدولة والمواطن الموالي لها, ولم يفرز المعارض من الموالي بل استهدف القتل المتحرّر من كل تصنيف, والمتحلل من كل تعريف, وهذا ما كنّا نتوقع أن يكون الإبراهيمي المبعوث الدولي صريحاً فيه, وكنا نفترض أن جولاته الماراتونية قد أوصلته إليه, ولم يعد مصطلح ( الوضع السوري مقلق – كما يُردد ويكرر – كافياً), ولم يعد غضّ النظر عن قطع طرقِ حياةِ, ومعيشة المواطن السوري مقبولاً وما يجب أن يتحرّاه الإبراهيمي هو هذه الازدواجية الأمروصهيوأوروبية في النظر إلى الإرهاب في التصنيف, وفي التوظيف. فحين يكون النضال الوطني التحرري ضد إسرائيل إرهاباً, أليس من الحق أن يكون قطع الماء والكهرباء, والدواء في خانةِ الارهاب؟ أم هنالك إرهاب حلال يأتي به أولاد الحلال, وهنالك إرهاب حرام إذا مسَّ مصالحهم أو كيانهم العنصري إسرائيل، يأتي به أولاد الحرام ؟! لم يعد السوري يرى في مهمة الإبراهيمي كيف سيدخل إلى الحرية, بل في حلم السوري اليوم من الإبراهيمي هو كيف سيوقف دورة العنف والقتل والتدمير والتهجير, وتقطيع الأوصال الوطنية, وتحطيم الصورة الحضارية المميّزِ المهم في بلدنا؟ والمواطن يطالب الإبراهيمي بأن لا يأتينا من تصوير الميديا الإعلامية الدولية لنا, إذ عليه أن يدركها كل الإدراك ولم تبق اليوم قضايا غامضة, ولم يعد الحراك من كافة الأطراف المعنية بالشأن السوري يحتاج إلى المزيد من التحليل، والتأويل, والتعليل. فالمبادرات الدولية, والإقليمية بين يديه, والنسق الدولي لم يعد تحت السيطرة الأميركية والحل المفروضُ من طرفٍ دولي غالبٍ وحاكمٍ ومُقَرِّرٍ غير موجودٍ بعد ظهور منظومة البريكس، والقوة السياسية الصاعدة لروسيا والصين.
إذاً؛ لا يجوز أن يبقى المبعوث الدولي محكوماً بعقلية طرف دولي وهو آيلٌ إلى سقوط, كما لا يجوز له أن يتنكّر لأحوال ملايين السوريين الذين صاروا محكومين بحرب الأغيار في بلدهم, وصدام المشاريع المتخلفة التي يتم التوظيف السياسي لها وكأنها الجنة القادمة, وما علينا سوى الدخول, وها نحن نرى العرب كيف دخلوها ليجدوها سراب الجنة, ووهم الخلاص. إن مهمة الأخضر الإبراهيمي إن لم تكن من ضميره نابعة, ومن حرصه على المستقبل العربي لشعبه وأمته فسيكون كما لاعب كرة القدم الذي يُزج بالوقت الضائع فلا يمكنه أن يعدّل نتيجةً, إلا إذا امتلك المهارات اللازمة. ونحن حَلِمْنَا وما زلنا بأن يمتلك المبعوث الدولي هذه المهارات. وإلى ذلك الحين لن يكون الشعب في سورية إلا في خندق حماية وطنه من التّشرذم, وكيانه السياسي والحقوقي من التحطيم, ولن يرضى بأن تُقَوِّضَ الفوضى الخلّاقةُ أحلام أجداده منذ آلاف السنين.