وفي الآونة الأخيرة حازت الأزمة في سورية وتطوراتها على الحيز الأكبر من هذا النفاق والتكاذب بحيث صوّر هؤلاء أنفسهم كأصدقاء للشعب السوري وراحوا يدافعون عنه ويدّعون الحرص عليه كما لو أنّهم بريئون مما يتعرض له من عدوان وإرهاب منظم من قبل جماعات إرهابية تابعة للغرب وأدواته الإقليمية.
آخر صور هذه السياسة الغربية الاستعمارية التضليلية تجلت بصورة واضحة خلال الجولة الأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المنطقة التي تناول فيها العديد من الملفات الساخنة، فخلال "حجّه" ـ كعادة الرؤساء الأميركيين مع بداية كل ولاية إلى الكيان الصهيوني ـ قدم أوباما لحكومة نتنياهو الإرهابية فروض الطاعة والولاء قبل أن يقصد الضفة الغربية ليخدر الشعب الفلسطيني ببعض أكاذيبه مقدما له وعودا فارغة وخيالية بمفاوضات زعم أنها قد تؤدي إلى إقامة "دولة" فلسطينية قابلة للحياة ـ حسب التعريف الأميركي الملغوم ـ إلى جانب الدولة اليهودية العنصرية النووية.
ولم ينس أوباما أن يبيع السوريين جزءا من بضاعته الفاسدة وبعضا من أوهامه المريضة من خلال وعوده بدعم طموحاتهم "بالتحرر" على حد زعمه، عبر تقديم المال والسلاح "غير الفتاك" الذي يساهم بقتلهم وتدمير بلدهم وتقسيمها، كما لم ينس أن يطلق تهديداته ضد إيران مطلقا يد الكيان الصهيوني لتحديد الموعد المناسب لبدء العدوان ضد برنامجها النووي السلمي.
بالطبع ليس في منطقتنا الكثير ممن يعوّل على حسن نوايا السياسة الأميركية باستثناء بعض العملاء والمأجورين والتابعين الذين يرهنون مستقبلهم ومستقبل دولهم وشعوبهم لما تقرره أو تقوله أو تريده واشنطن، وهناك العديد من المطبلين والمزمرين والمروجين لتصريحات المسؤولين الأميركيين ووعودهم الجوفاء، فالسياسة الأميركية تُقرأ من عناوينها، وقد حدد أوباما في جولته الأخيرة عنوانها الأبرز وهو حماية الكيان الصهيوني وضمان تفوقه العسكري ودعمه وتسليحه ليستمر في احتلاله للأرض العربية، وما عدا ذلك مجرد تفاصيل يسهل على واشنطن التنصل منها والتنكر لها، كما فعل الحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى عندما وعدوا العرب بالتحرر من العثمانيين ثم انقضوا عليهم واحتلوا أرضهم وقسموها وزرعوا الكيان الصهيوني في قلبها.
تكاذب ونفاق أوباما تجلى بوعوده لنتنياهو بدعم حكومته الفاشية في تنفيذ مشروعها التهويدي للقدس وإقامة الدولة اليهودية المزعومة من جهة، ووعوده للسلطة الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية دون أن يحدد لها حدودا معروفة أو يبدي موقفا معارضا للاستيطان الذي ينهش أراضي الدولة الموعودة من جهة أخرى، وهذان الموقفان متعارضان ولا يخدمان سوى الكيان الصهيوني الذي يجيد لعبة تمرير الوقت وفرض سياسة الأمر الواقع عبر المفاوضات.
أما بخصوص الأزمة في سورية فقد مارس أوباما نفاقا مفضوحا تجلّى بادعائه الحرص على الحل السياسي ودعمه للمفاوضات والحوار بين الدولة والمعارضة وصولا إلى حل ينهي الأزمة، وجموحه في الوقت نفسه نحو دعم المعارضة بالسلاح والترخيص لفرنسا وبريطانيا والمشيخات التابعة لواشنطن بنقل هذا السلاح وتسليمه للجماعات المسلحة بذريعة أن هذا السلاح يمكن أن يقلل من الخسائر ويدفع باتجاه الحل، في حين أن إدارته هي من أشرفت على تشكيل هياكل وتنظيمات المعارضة في الخارج وصولا إلى الحكومة المسخ التي أعلن عنها مؤخراً والتي رفض رئيسها المعين من قبل واشنطن الحوار الذي يدعو إليه أوباما ووزير خارجيته جون كيري، فكيف يمكن لعاقل أن يستوعب هذه الأحجية الأميركية ما لم يكن مقتنعا بأن السياسة الأميركية قائمة في الأصل على النفاق والتكاذب.
بخصوص الأزمة مع إيران فقد وضع أوباما كل بيضه بالسلة الصهيونية متبنياً جميع الهواجس والمخاوف الإسرائيلية من البرنامج النووي الايراني السلمي، معطياً للكيان الصهيوني الحق في مهاجمة إيران وضرب منشآتها النووية دون الرجوع لواشنطن وكأن البرنامج النووي الايراني هو شأنا إسرائيليا مستقلا، في الوقت الذي يخضع فيه البرنامج النووي الايراني لرقابة وإشراف مباشر من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهناك ست دول ـ خمسة منها دائمة العضوية في مجلس الأمن ـ بينها واشنطن تعمل على الوصول إلى نهاية سلمية لهذا الملف وعبر التفاوض.
يبدو أن السياسة الأميركية تعيش حالة فصام تجعلها متناقضة مع بعضها، بحيث يصعب فهمها أو تحليلها وهذا ما يفسر حالة التأزم التي تعيشها، أو أنها واقعة تحت هيمنة الكيان الصهيوني واللوبي اليهودي الذي يعمل في الداخل الأميركي، فغالبا ما تتعارض هذه السياسة مع مصالح الشعب الأميركي بحيث يدفع أبناؤه ثمنا باهظا لحماقات بعض السياسيين وأطماعهم وارتباطاتهم الخاصة، فحين قامت إدارة ريغن بدعم القاعدة في أفغانستان دفع الشعب الأميركي ثمن ذلك اعتداءات 11 أيلول الإرهابية، وحين غزت إدارة بوش أفغانستان والعراق دفع الشعب الأميركي وما زال يدفع أثمانا باهظة لهذه السياسة الرعناء.
إن من شأن الانجرار الأميركي لدعم الإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني وضد البرنامج النووي الإيراني، وكذلك الانجرار لتأزيم الأوضاع في سورية، أن يجر الولايات المتحدة إلى صراعات جديدة سيدفع الشعب الأميركي ثمنها عاجلا أم آجلا وأوباما ليس استثناء..؟!!