تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


النزعة الفردية رفض مجتمع الاستهلاك والنفعية

ملحق ثقافي
2018/2/13
د. عبد الهادي صالحة

تغطي مفردة «فردية» المفاهيم الأكثر تباعداً التي يمكن للمرء أن يتخيلها، وهي تعني «الاستقلال الفردي» بالعلاقة مع الدولة أو مع أي بنية أخرى، أو بتعبير آخر الانسلاخ أو التحرر من سلطة الجماعة.

والفردية مفهوم فلسفي وسياسي واجتماعي وأخلاقي يرمي إلى تمييز وتفضيل حقوق ومصالح وقيمة الفرد بالتناسب مع حقوق ومصالح وقيم الجماعة. والفردية أيديولوجياً تؤكد على القيمة المعنوية للفرد، وتدعو إلى ممارسة أهدافه ورغباته، ليكون قيمة عليا مستقلة معتمداً على نفسه، ويرفض التضحية بمصالحه الخاصة في سبيل أسباب اجتماعية عليا، وتعتبره – بدلاً من الأسرة – الخلية الأساسية.‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

وللفردية تاريخها، فقد ظهرت قرابة نهاية العصور الوسطى، وتطورت ابتداءً من عصر النهضة تحت تأثير عوامل متعددة مثل اختراع الطباعة، ما شجع النشاط الفردي للقراءة. ويمكن اعتبار ديكارت الرائد الأول للفردية، وخاصة بعد محاكمة غاليليه التي أكدت على مكانة الذات العاملة والمفكرة، بمعنى أن حدود المعرفة باتت تقتصر على عالم الطبيعة، وهذه أصلاً حدود المعرفة العقلية. إلا أن العقلانية الحديثة أعلنت هذه الحدود حدوداً نهائية للمعرفة، ونفت بالتالي أي شكل من أشكال الميتافيزيقا.‏‏‏‏

نادت الفردية باستقلال الفرد مقابل المؤسسات الاجتماعية والسياسية المتنوعة (العائلة العشيرة والجماعة والطبقة)، وجعلت منه هدفاً ومعياراً لكل شيء، فهو يسعى للتحرر من أي سلطان ليثبت فرديته مبدأ مطلقاً على مستوى الفكر، ويتجرأ على قول «أنا»، ويغير مركز الثقل في العالم الاجتماعي (القوانين العليا والدولة والعائلة)، ليتوجه نحو عبادة الذات. وانتقلت بؤرة التمركز من «التمركز حول الكون إلى التمركز حول الإنسان»، حيث تجلى ذلك في المذهب الإنسانوي الذي فك الارتباط بين المصير والقدر، ورفض الأخلاق السائدة والمؤسسات، وتحرر منها، ورفض التصور القديم للعالم، ومن ثم تحولت هذه الفكرة إلى أن التأكيد على قيمة الإنسان، فوصل الفكر الغربي الحديث بذلك إلى المادية، وأصبح الإنسان هو صانع التاريخ والحركة التاريخية.‏‏‏‏

لقد أدت الحداثة، كما تنبأ جان جاك روسو، إلى فصل الإنسان عن بعده الطبيعي، الأمر الذي أدى إلى فردنة هذا الإنسان وانسلاخه عن الجماعة، فعادت الذات إلى ذاتها، وتحولت الفردية الذاتية إلى فردوية محورية؛ حيث فقد الإنسان اكتماليته وأصالته وغاية وجوده بعد أن فقدت النهضة المسيحية قدرتها على تنظيم الحياة الاجتماعية، وتوقفت الثيولوجيا عن أن تكون ضامناً لبنية تراتبية. كشفت الفردية مهمتها السياسية القائلة بالمساواة بين البشر، وقطعت صلتها بالعلاقات التراتبية القديمة والجماعية المشتركة. لقد قامت الحداثة على دعامتين: العقل يجب أن يسود، والغيب يجب أن يتراجع. وهذه الفردية التي تختلط مع الحداثة الغربية كان لها العديد من التأثيرات السلبية، إذ أنتجت نمط فرد منعتق رسمت له الفردية عالماً مثالياً، حيث يستطيع أن يتطور ويصبح ذاته مزيلاً، قدر الإمكان، خناق الضغوط الاجتماعية المفروضة لكي يمتلك عالمه لوحده، ويمتلك هوية مفتوحة واصطفائية بمعنى ما، وكل إنسان خاص يجسد الإنسانية كلها. ومن الآن فصاعداً، أصبح الفرد في مواجهة ذاته، ولكنه دفع ثمن هذا الاستقلال غالياً، وانقلع من جذوره، وفقد بوصلته الاجتماعية، وأصبح في حالة بحث دائم متجدد عن ذاته.‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

ورثت الليبرالية المفهوم الفردي المساواتي والكوني الذي قبلته المسيحية، وأحلت محله الفردية الفوضوية التي نادت بالتحرر من أي سلطة. استبدلت الليبرالية الجهد والنظام بالعمل الفردي، ومالت نحو البحث المتعي عن السعادة الفردية. ومع نهاية الألفية الثانية، بدأت الليبرالية السياسية والاقتصادية تكتسب مواقعها في المجال الثقافي من خلال استحضار نظريات الاستقلالية الفردية، كما نشأت وتطورت مع فولتير وروسو وتوكفيل وآدم سميث، وغيرهم. فكل هؤلاء انطلقوا من مبدأ الفرد قبل الجماعة، ومن أنه كلما استقل الفرد وصار حراً تعززت حرية الجماعة. يقول الإيطالي جياني فاتيم: «إن الثقافة الفردانية هي النسق الأخلاقي الوحيد الذي ما يزال مفتوحاً أمامنا بعد سقوط الأيديولوجيات الكبرى.. لقد قلص الليبراليون الفرد قدر الإمكان إلى الملاحقة العقلانية لمنفعته. ولقد حلت ثقافة الانفصال – وليس ثقافة الاتصال والتماسك – في العمل والحياة المحلية والعلاقات بين الأشخاص».‏‏‏‏

ولقد تفتحت الأيديولوجيا الفردية مع مفكري الفلسفة السياسية: توماس هوبز وجون لوك، ثم عبر فكر الأنوار، إذ رأى الأول أن حقوق الفرد هي في تأكيد حقه في الأمن والحماية، أما الثاني فقد رأى تأكيد حقه في الملكية. كان لوك من أوائل المفكرين الذين أدخلوا المفهوم الفردي للإنسان في السياسة، وأصبح بهذا أحد مؤسسي الديمقراطية الليبرالية، وهو الذي أسس الملكية على حقوق الفرد، ونظرية حق الملكية على العمل. والملكية تشكل، كما يرى توكفيل، أحد «الحقوق الطبيعية في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، وهي تعتبر مقدسة».‏‏‏‏

على الصعيد القانوني، كان لوك يقصد أن الفرد عندما يصبح مالكاً، فإنه يصبح سيد ذاته، ويتملك عمله وأدوات وجوده. والذاتية لا يمكن، بشكل عام، أن تترسخ إلا انطلاقاً من قاعدة اجتماعية مثل الملكية والحقوق السياسية. لقد بدأ الفرد الحديث في بناء الفردية الحديثة حول «تأكيد الحياة العادية»، بمعنى تثمين الحياة المادية: العمل والرفاهية المادية.‏‏‏‏

والفردية الحديثة، في جانب منها على الأقل، هي نتيجة درجة هائلة من التخصص في المجتمع الصناعي. وتتعارض الفردية مع التيارات التي أعطت الأولوية للمجتمع على الفرد، في السياسة: في النزعة الوطنية، وفي الاشتراكية، والأيديولوجيات ذات النمط الجماعي. ويمكن للفردية، في بعض الحالات، أن تتعارض مع الديمقراطية، عندما تؤدي هذه الأخيرة إلى اتخاذ قرارات مضادة للمصالح الفردية، وهذا ما يسميه ألكسي توكفيل «هيمنة الأغلبية». وفي السوسيولوجيا، تتعارض الفردية المنهجية مع المنهجية الشمولية: المجتمع الشمولي يحدد كرؤية للعالم، وفيه يطغى الكل (المجتمع) على الأجزاء (الأفراد)؛ والمجتمعات الشمولية هي مجتمعات تراتبية، بينما المجتمعات الفردية الحديثة أرادت أن تكون مساواتية. لقد كانت الحضارة الأوروبية حضارة هولستية، والفردية تتعارض مع المجتمع الهولستي، حيث تسيطر مجموعة اجتماعية من التمثيلات التي تثمن الكلية الاجتماعية، وتهمل، لا بل تجعل الفرد الإنساني تابعاً كلياً لها، بينما يثمن المجتمع الفردي «الفرد الإنساني ككائن أخلاقي مستقل». ثمة تعارض بين الشمولية والفردية، ففي المجتمعات الشمولية – نقصد المجتمعات البدائية القروسطية – لم يكن الفرد موجوداً.‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

الغرب، الذي أثمله نصره على الشرق والجنوب، ارتمى، وبلا تروّ،ٍ في هذه الليبرالية التي لا حدود لها، ورأى أن كل إنسان يملك الحق الطبيعي في الحياة والحرية والملكية وتحرير الرغبات والعواطف، ونبذ كل ما يقف عقبة في وجه الحرية الفردية. ففي المجال الأخلاقي، أحلت المجتمعات الليبرالية القواعد السلبية محل القواعد الإيجابية، والضمانات محل المعايير. ولقد طفا صعود الفردية بـ «الهوية الذاتية»، ليترك المجال حراً للمنفعة، ولـ «تفتح» الفرد، وللتعبير عن أوهام «الأنا» ورغباتها اللاواعية التي تجرفه، وتطلب المزيد. وكان التوسع المستمر للتقنية وقدراتها يحمل على الاعتقاد بأن هذا الطموح المتصاعد والمستمر سيشبع مع الزمن.‏‏‏‏

لقد غزا الفرد الحديث حريته، ولكنه وجد نفسه وحيداً إزاء مصيره. أصبحت الحرية الكاملة بالنسبة إليه فراغاً قاتلاً، وغابت عنه الأهداف والمشاريع الكبرى التي تستحق التضحية، كما غابت معالم توجّه مساراته الحياتية؛ فهو مدعو إلى ترقيع الفتق بذاته، وابتداع قيم تسد الفراغ الذي تركته «السرديات الكبرى»، الدينية منها والدنيوية، والبحث في داخله عن قوة تدفعه إلى الالتزام بها؛ وهو ما يدفعه إلى ارتكاب الحماقات.‏‏‏‏

لقد ذاب المجتمع الليبرالي في احتياجات تافهة وزائلة، وفي شبكات علاقات ذاتٍ تائهة تتقاذفها الأهواء، وتتجلى هنا وهناك في زوبعة الاستهلاك، وسرعان ما تتلاعب بها سلطة المال أو القوة. لقد انتزعت الليبرالية الفرد من وسطه العائلي والمحلي والديني لتعبئته في خدمة الدولة، أكانت علمانية أم دينية. وليست الحرية الشخصية وحدها هي التي تدمّر؛ بل إن الانتماءات الثقافية تدمّر كذلك. الشمولية تدمّر المجتمع وترده إلى حالة الجمع، أو الجمهور المطيع لكلمة القائد وأوامره، لذلك فالدعوة إلى الذات تسمع اليوم بكثير من القوة.‏‏‏‏

لقد تحولت نظرة الفرد إلى نفسه، إذ إن الأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دفعت الفرد إلى استكشاف ذاته وإعادة النظر في علاقته بها، فأعلن «موت الجماعة» ورفض الأنساق القائمة، واستمتع بلحظات الانتشاء، وهو «ينتصر على كل الأبويات»، لكن هذا «التحرر» لم يذهب به بعيداً، إذ سرعان ما بدأ يشعر بالحاجة إلى تجاوز الرتابة ومآلاتها التي لا يتحملها، فوجد أن المخرج من هذا المأزق هو الهروب إلى الذات، ومن خلال الاستثمار في جسده ومخياله. وكانت النتيجة أن الفرد المعاصر لم يعد لديه يقين في أي شيء، فهو متعب، ويعاني كثيراً من الهشاشة الاجتماعية والسيكولوجية ضمن مجتمع يفتقد هو نفسه للمعالم التي توجه حياته.‏‏‏‏

يستجيب المجتمع الليبرالي للبحث عن المنفعة، عن صوت الذات اللاهثة والنرجسية. إن الفرد ليس غاية في ذاته، بل حلقة في كل كبير يحتويه ويتجاوزه. ولكن البعض وبحجة الإنسانية اختزل حضارة كل المجالات إلى عناصر إنسانية صرفة. لقد قامت الحداثة بتكريس الإنسان من أجل حقوقه ونسيت واجباته. لقد شددت الحضارة الحديثة بلا انقطاع على ما يبعد الإنسان ويفصله عن العالم. وقع الإنسان في الفخ الذي نصبه من جراء كبريائه، ودلف بنفسه إلى السجن باسم الحرية، فقام بالفصل بين الموضوعية والذاتية، وأبى ألا يدرك حريته إلا في الذبذبة بين الالتزام وعدم الالتزام. أصبح الإنسان يبحث عن الخلود على الأرض، وغدا الفرد كائناً عاطفياً متمركزاً على نفسه، حريصاً على أن يحقق نفسه بنفسه، اقتصاداً يتحرك للسيطرة على كل شيء. إن دعوى الشخصنة التي خلقتها الحداثة اللاعقلانية أوصلت سلطان الفرد إلى ذروة قصوى، وحررت الرغبات، وسعت إلى تلبية كل التطلبات، ونسفت كل الحواجز، وذلك من خلال تسارع التقدم التقني وطغيان الميديا وتطورات الأيديولوجيا الفردية.‏‏‏‏

لقد خلقت الحياة المعاصرة أفراداً غير مسؤولين تحركهم العقلانية، ونسوا كل أخلاقية. وأدت الفردية إلى التفرد والتوحد والغربة، وكانت سبباً للانطواء على الذات، وللأنانية واللامبالاة إزاء الآخرين. وقد دفعت هؤلاء الأفراد إلى الحرص على التفوق على أحد ما، أو مغالبة ذواتهم نفسها والفوز عليها. إن الوعي بالذات وبالعالم عند هؤلاء غالباً ما يكون مصحوباً باليقين بأن الحياة كلها ليست إلا صراعاً. لقد فقدوا حريتهم لأنهم فقدوا السيطرة على ذاتهم، واستسلموا لاندفاعات الرغبة الهوجاء، والشهوة التي لا ترتوي، واندفاعات الطموح اللامتناهي؛ فالشهوة ترغب في الأكثر، والطموح يريد الأحسن. واستمرّ البحث عن الأنا ومصلحتها الخاصة في التحرر الشخصي وهاجس الجسد والجنس. وكلما تحررت الأخلاق انتصر الشعور بالفراغ. وفي الحقيقة، تعيش المجتمعات الغربية الحديثة حالة التباس اجتماعي أخلاقي كبير، لأن اجتياح الفردانية الديمقراطية منذ الثمانينيات يغرق، الآن، في نرجسية غير مسؤولة تمثل مرحلة جديدة من الفردية. لقد اخترعت المجتمعات الحديثة أيديولوجيا الفرد الحر المستقل واقتصاد السوق الحر التي تتجاهل العلاقات الاجتماعية وتنفي البعد المتعالي، وتركّز على جهد الفرد لكي يكون هو نفسه في علاقة مباشرة مع المقدس.‏‏‏‏

لقد ازدهرت تقنيات غزو العالم المادي والإنتاجية الصناعية، فهيأت حضارة الاستهلاك. ومجتمع الاستهلاك ومجتمع الإعلام هما اللذان ولّدا الفردية. إن العيب الحالي في الإنسان ليس فقط في أنه لم يعد يستمع إلا إلى أنانيته، وفي أنه ينساق إلى استغلال العالم بلا رويّة، بل هو في ضلال الأنانية، وفي انصرافه الطائش إلى جشعه: لا يرى سوى الغنيمة التي يطمع فيها، والوسيلة للحصول عليها، دون أن يقدّر ما سيكون لهذا النجاح المزعوم من نتائج وخيمة. إننا نحج إلى أماكن الاستهلاك، وتبدو ثقافة الاستهلاك كأنها أحد أسلحة تدمير «الأنا»، والسلاح الذي يمكن أن يعتبر من أكبر مهمات الحداثة وما بعد الحداثة. لقد أصبحت حضارتنا حضارة استهلاك وابتلاع تستنفد في العالم المحيط بنا الموارد التي تشبع حاجات جسدنا، بل شهواته ورغباته أيضاً. فالغذاء أولاً، ثم الرفاه، ثم إنقاص الجهد، وأخيراً ملذات الحواس – الملذات التي تشغل أوقات الفراغ بشؤون الجنس. وهذا وحده يدل الآن على انحراف خطر، وعلى انحطاط الجانب الإنساني. لقد تميز العصر ما بعد الحداثي بتشتت التسليات ومدّ الأهواء والعدمية الحديثة.‏‏‏‏

لقد نُزعتْ الصفة الإنسانية عن مجتمعاتنا وأصبحنا مجموعة أفراد مستهلكين نركز على إشكاليتنا الشخصية، التي من أجلها لا نبحث عن حلول إلا من خلال الاستهلاك الذي تقترحه المشاريع الضخمة. أصبحت الفردية ترتبط بديكتاتورية السوق، حيث يتصارع كل فرد ضد الآخرين. إن التصدعات التي تعرفها الروابط الاجتماعية تتمظهر في الميل المتزايد للأفراد إلى الانطواء على الذات، وغياب التواصل مع الآخرين، والخوف من الآخر باعتباره غريباً، والانهيار العصبي. لقد انبثقت صورة جديدة للفرد الممزق المتشظي، الحائر، المتردد، المتعثر، المتقلب. وقد حل محل الفرد الغازي المنتصر الفرد المتألم، المصاب بالقلق الوجودي والإعياء والتعب النفسي والعصاب، فلجأ إلى المخدرات والمهدئات، وأصبح نهباً للاضطرابات والهوياتية.‏‏‏‏

انقلب السحر على الساحر، وتحولت الرغبة في تحرير الجسد من كل أشكال التابوهات التي كانت «تسيّجه» إلى مأزق، وتحول هذا الجسد إلى «سيد» يقف عنده السقف الوجودي للأفراد، فقد غدا محور الوجود كله، ذلك أن ميلاد هذا المخيال الاجتماعي الجديد للجسد هو الذي أدى إلى ظهور النرجسية. لقد حل مصطلح «الجسد السيكولوجي» محل «الجسد الموضوعي الفيزيائي» الذي يستدعي آلياً وجود فضاء صامت، أو انقطاعاً كاملاً عن الآخرين، وهو ما يعني العزلة التامة.‏‏‏‏

وبهذا الشكل أصبح الجسدي «اليقين» الوحيد للفرد، أو أداته الوحيدة للارتباط بتوجه عام، والالتقاء بالآخرين، والإحساس بالتواصل مع المجتمع إذ يسود اللايقين. إن الفردانية المعاصرة والناتجة عن تفكّك منظومة القيم والتحوّلات الثقافية تقود إلى تآكل ما يسميه علماء الاقتصاد وعلماء الاجتماع بـ «الرأسمال الاجتماعي». ومن هنا نخلص إلى أن الفرد المعاصر، ومن ورائه المجتمع، يفتقر إلى كثير من المعالم الحياتية والقيم المرجعية التي يمكن أن تؤطر طاقاته وترفع من سقف تطلعاته إلى ما هو أبعد من جسده المحدود الضعيف المتهالك، فهو يتمركز حول نرجسيته الفردية موظفاً جسده كجسر محوري في التواصل مع الآخرين.‏‏‏‏

وفي ظل سقوط المعالم الجماعية وعزلة الفرد، ينكفئ هذا الأخير على نفسه، ويصبح جسده سقفاً وجودياً ينهشه الفراغ، ويشعر بالضياع إذا أحس أنه «يخونه». إن العجز عن عدم إقامة فاصل بين «الواقعي» و»المتخيل» يدفع الفرد إلى الإقامة في عالم يفتقر إلى أفق وجودي واضح، وتسكنه هواجس تأثيم وتوضيع الذات واستنفارها، للتماهي مع نماذج غير عقلانية. وليس من السهل على الفرد أن يتحمّل إدارة ذاته، خصوصاً إذا كانت صورتها غير متناغمة مع تلك التي يحملها عنها في خياله، فهذا الفرد المتردد، المدفوع دفعاً إلى التكيف مع المتغيرات الحياتية، يجد صعوبة في القيام على ذاته بسبب هشاشة أوضاعه، وتوحده الذي يدفعه إلى أن يكون مكتفياً بذاته. لقد قامت الميديا، خصوصاً في نسختها الإشهارية، بابتداع مصفوفة مفاهيمية (السعادة، الصحة، الجمال، التفوق، المكانة، الحيوية.. إلخ) سرّبتها، عبر عمل دؤوب ومتواصل، إلى فضاء الأفراد، وحجبت الكوة التي ينظرون من خلالها إلى ذواتهم وإلى الآخرين. وبما أن الميديا تؤسس عبر آليات الإغراء الإشهاري – حيث يغيب الفعل الثقافي لمصلحة الفعل الغريزي – لنماذج جسدية متعالية، فإن النتيجة «الطبيعية» هي هذا الميل المتزايد لدى كثيرين إلى عدم الرضا عن الذات.‏‏‏‏

لقد أصبح القلق من أوضح سمات عصرنا. وبدأ الإنسان المعاصر القلق يعي أنه «مستلب»، لأنه يعلم أنه قد حُوّل عن طبيعته الخاصة به، كما يقول إنه «محروم» لأنه يشعر بأنه لم يعد بإمكانه ممارسة الكثير من إمكاناته ولا سد بعض حاجاته. أصبح الإنسان الحديث ذرائعياً نفعياً، والحضارة التي صنعها عصرنا لنفسه أصبحت سجناً له، فبدأ بالاختناق الأخلاقي والحسي والروحي. لقد فقد امتلاك نفسه، واستغرقه شجعه المادي الخسيس فنسي رسالته، ولم يعد يحلم إلا بالنجاة، والبحث عن حلول. إن الحركة الهيبية هي، على سبيل المثال، ظاهرة هروب تنطوي على رفض مطلق للحياة الحالية، ولمجتمع الاستهلاك، بيد أن لها قيمة فكرية، إذ إنها تنطوي على رفض لفكر الغرب، وتبحث عن فكر شرقي، وتهتم بفلسفات الهند وبفلسفات التنسك واللاوجود. ينكر الفرد الفعاليات النفعية المغرضة، ولكن الهرب الأخير الأساسي إنما يسببه الوهم المصطنع، إذ ليس لأضراره المتزايدة من مدلول سوى ردة فعل مذعورة من الزهد في العالم الحديث ومن تناسيه.‏‏‏‏

أخيراً، لا بد من إعادة الاستقرار إلى المجتمع، بأن تعاد إليه هذه الجذور الحيوية (الأسرة والتربية الواعية) التي تفتح المواهب الحسية والحياة الداخلية، وتوقظ المواهب الفطرية الأساسية في الحب والتسامي، لكي نعيد الإنسان إلى قدره الحقيقي، وإلى كيانه الأصلي، من خلال تنمية الحكمة وإعادته إلى أسرته، وإلى فردوس الطفولة الأخضر، وإلى النبع الذي يمكن أن يستعيد فيه المرء قواه الحية. فالنجاح الكلي يستلزم «الخروج» من هذا الانتشار في الزمان، والخروج من الأنا الشخصية، ومن الحالة الفردية.‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية