النكسة ، لا غرابة ، تعود ثانية ورابعة وعاشرة ، ولا أدري كم من المرات ستعود !. لكن هنا بدواع جديدة ، أقصد بنكهة فريدة لا يضاهيها إلا الولع الفني عند « فيصل خرتش » بمراودة الإنساني الساكن فيه ، والكلي الخارج من اللحظي والعابر ...
في القصة الأولى من اثنتين « أطلال أم كلثوم» لحظة النكسة إذاً تتوهج هنا كزمن معني بقوة بمكانه ، لا العابر ، بل الراسخ في الجذور والأعماق المستلبة ... اللحظة المكانية هنا ستعيدنا ثانية أيضاً إلى القاع الخاص بالكاتب، قاع الأطراف المهمشة والمهشمة المنهكة ، وهي تقف على حافة هذا التداخل العصي بين الريف والمدينة، هذا الذي ظل يزداد استعصاءً وتنافراً باستمرار ... القاع الذي ظلت تتناسل منه شخصيات شديدة الحضور بما هي مشاعر وعلاقات متصادمة ومأزومة ، هذا النحو ينشد في نهاية المطاف خلاص الروح المصعوقة، المقاومة لا المهادنة والمستسلمة ، الحاضرة لا الغائبة ، ( الراوي ، فائزة ، الأب) لأن هناك من يعيش في تلك اللحظة حالة النهاية ، حالة الكف عن أي صدام أو سؤال ( الأم ، الجدتان ، الأخوات ) ، الحدث سيبدأ من لحظة انتصار ، أو شعور ما بالتجاوز ، حيث البطل يقف على مشارف عمر يمتد طويلاً خلفه في الذاكرة ... « ها أنا أجلس في السيارة ، وأطل على الجامعة التي أعمل فيها ، بيت وسيارة ، ولقب علمي ، لقد تعبت حتى صار كل ذلك لي ... أوقفت السيارة على يمين الطريق ورحت أتذكر . » ص7 .
هذه اللحظة المتأملة والمستقرة تسلمنا مباشرة إلى لحظة هاربة، دون أن تكون ضائعة أو منسية ، لحظة ظلت هاجعة هناك بعيداً وفي الأعماق، متشكلة أساساً من رهافة الحس الطفلي وامتلاء التجربة بالأبقى والأكثر حضوراً وفعلاً في التالي ...
الحدث الذي بدأ صغيراً ، معنياً بتفتح مشاعر الحب في نفس مراهق ، سرعان ما ينفتح على مرويات ساخنة من حرب حزيران ، مرويات عجيبة تتداخل بعناصر من الماضي التاريخي العربي تحيا في الحاضر بكل يسر عندما تستمد حضورها من انسجامها الواقعي بأحداث الحاضر ... فالخلفاء من بني أمية وبني العباس يجتمعون بالملوك والحكام العرب ، والشعراء بالقادة والوزراء، الكل يدلي بدلوه في حرب حزيران ، الجنود المضحون والقادة والنظريون المتفلسفون وأرباب الأحزاب وأقزامها وفطاحلها وعمالقتها، كل ذلك يطل من جديد بصور ساخرة ترتسم بأشكال متعددة من مقزمة وهاتكة وفاتكة وماسخة ، صور أرادها الكاتب أن تكون متهكمة ومتشفية ، وفيها ينطلق السرد في جدول اللحظات المستعادة منساباً بجريان يكاد لا يتوقف، متحللاً من أي عقال، بحيث تختلط التواريخ بالأمكنة بالأشخاص بالإحالات المباشرة أحياناً: ( انظر صحيفة الثورة عدد يوم الاثنين 12/6/1967) ص 85 ، ثم العودة إلى قطب الحدث : حكاية فائزة وحبها المسفوح على الخليقة ، ولوعتها في حب أم كلثوم ، ثم تواب وإبرة الراديو ... ليصنع خرتش من هذه الشذرات الواخزة ، المرمية في أنحاء الزمان والمكان ، سرداً جديداً يلم عناصره ويشدها معاً في ضفيرة واحدة تنجدل من مكونات ربما لا يأبه بها أحد ، أو لا تثير أولا تلفت نظر ناظر ... والنتيجة أن الكاتب يستطيع عبر هذا الهذيان السردي المتواصل أن يخلق الحالة الروائية ، وأن يصنع المزاج الخاص للعمل ، بنكهته الفريدة الخرتشية ، عبر قدرة هائلة على التخييل ودمج مكوناته وعناصره وجمالياته ، بما يعزز صورة نموذجية لقص عربي له خصوصيته المعتمدة على كنز يصخب بالموجودات الإنسانية الفاعلة والمؤثرة في الحاضر .
في قصته الثانية « العصابة » نقلة هامة في أعمال خرتش ، ففيها يغادر عالمه الأثير ، عالم القاع الاجتماعي الفريد الذي عرف به ، إلى ما يمكن تسميته بالقاع الرسمي ، قاع النخبة المتخمة ، والأوساط المخملية ، والفئات الأكثر تسلطاً وضلوعاً في كل شيء، الوالغة في حياة الوطن، ويقوم السرد فيه على التداعي الحر ، والمزج الموفق ما بين الأفكار والرؤى والأحلام والتمنيات ، إنه خليط جارف من تفاصيل الواقع الصادمة والصادقة والمؤثرة تتدفق عبر نهر السرد الدافق لتصوغ هذه النكهة الحريفة والمريرة ، تسخر وتغضب وتقول كل شيء لا للضحك وتزجية الفراغ و ، وكل هذا المحجوب والمسكوت عنه ستتعاطاه الرواية بجرأة ، وسيكون عرضة لأضواء كاشفة تعريه وتقذف به سبة في عيوننا ، نحن الذين لا زلنا نرى كل شيء على ما يرام .
المؤلف في سطور :
- فيصل خرتش مواليد حلب 1952 ، يحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب 1974 . درس في كلية التربية ، جامعة دمشق ، عام 1976 . حصل على دبلوم في اللغات الشرقية القديمة عام 1983 ، وحضّر رسالة الماجستير عن لغة أوغاريت . عضو اتحاد الكتاب العرب . له من الأعمال : موجز تاريخ الباشا ، لندن 1990 – تراب الغرباء ، دمشق 1994 – أوراق الليل والياسمين ، دمشق 1994 – خان الزيتون ، حلب 1995 – مقهى المجانين ، بيروت 1995 - حمام النسوان ، بيروت 2000 . مقهى القصر - وزارة الثقافة ، دمشق 2004 . شمس الأصيل – وزارة الثقافة ، دمشق 2008. مجموعات قصص قصيرة : الأخبار – دمشق 1986 - شجرة النساء – دمشق 2002 .
***
أطلال أم كلثوم والعصابة - فيصل خرتش - وزارة الثقافة – الهيئة العامّة السورية للكتاب – دمشق 2012 - عدد الصفحات 240 صفحة ؛ القطع : متوسط