وكما يرى ناقدون سينمائيون فإن وايلدر ينظر إلى العالم نظرة تهكمية لكنه يعرف السبيل إلى إضحاك الناس.
فكل فيلم من أفلامه هو قصة رمزية يصل فيها الإنسان السيء إلى طريق مسدود.. ومع أن وايلدر لم يتوقف عن التنقل من نمط إلى آخر ، لكن بات واضحاً أن جميع شخصياته متشابهة من حيث السلوك والخصائص الذاتية المميزة التي أصبحت ثوابت تتصف بها شخصيات ثلاثية «الشبحية» : الفوارق الاجتماعية والدوافع وسبل فهم الواقع ولعب الأدوار والأكاذيب والجبن والافتقار لبعد النظر واستغلال الآخرين، إضافة إلى صفة القلق المقترنة دائماً بهذه الشخصيات إزاء الحياة ماضياً وحاضراً. ففي فيلم «جادة الغروب» 1950 أبدع وايلدر بإضافة بعد واقعي لهذا الفيلم، ورغم الهجوم اللاذع عليه ، آثر السينمائيون تحويل هذه الإدانة غير المسبوقة إلى نصر عظيم حين منحوا «جادة الغروب» جائزة أوسكار أفضل فيلم، وفيه استخدم وايلدر أسلوب عرض المهارات الفنية الشكلية ، ولعل أسلوبه المتوازن هو الذي يميز إخراجه الإبداعي، ولم يحد عن هذا المبدأ إلا عند تصوير لحظات الموت أو الجنون، وهو ما ظهر في المشهد الختامي في هذا الفيلم.
تقول الممثلة المشهورة مارلين ديتريتش عن بيلي وايلدر إنه كان معلماً وأستاذاً يعرف أدواته ووسائله ويحسن استخدامها في ابتكار بناء يستطيع تزيينه بروح دعابته وحكمته.
لقد أضفى وايلدر طابعاً جديداً على الكوميديا الأميركية، فكان يعرف كيفية إضحاك الجمهور، وأتقن الانتقال بالتناوب بين الحوار الصاخب والمواقف الكوميدية التي غالباً ما تصل إلى حد الكوميديا الخشنة، لكن جان دوشيه المؤرخ والناقد والسيناريست والممثل الفرنسي له رأى آخر فهو يرى أن شخصيات وايلدر رومانسية ومثالية غارقة بالحرمان، وهذا الحرمان هو نتيجة انحطاط الحضارة وفساد المجتمع. من جهة أخرى يعتمد توجيه وايلدر للممثلين على تعابير وجوههم للإفصاح عن القلق وجفائهم الأخلاقي ومعاناتهم الضمنية من إذلال الأعراف الاجتماعية التي تستخف بأهم مبادئ كرامة الإنسان.
أما فيلم (فيدور) فيعد تحفة وايلدر السينمائية، الذي جاء قبل ثلاث سنوات من فيلمه الأخير (بادي بادي)، وتحديداً في عام 1978 ، وهو مقتبس عن رواية توماس ترايون. وفيلم (فيدورا) بأجوائه التشاؤمية القاسية وما يزخر به من إحباطات وخيبات أمل يشبه في بنائه أحجية تستعرض زوال شابة تسلب من هويتها أو زوال سينما أتقنت الربط بين الفن والسوق التجارية.
ورغم أن هوليوود تشكل جوهر موضوع هذا الفيلم، إذ يقتصر استعراض أميركا على اللقطات الاسترجاعية المرتبطة بعالم السينما، أما بقية القصة فتدور أحداثها في أوروبا حيث لا تظهر «الأشباح» كمجرد ظلال على الشاشة.
ويتابع وايلدر في هذا الفيلم البحث عن هوية الفرد، والجنون ورغبة الموت وأثر الذكريات ، لكنه وكعادته يمسك أساساً بمبادئ الفضيلة والأخلاق، وأجواء الفيلم الحزينة تكشف في نهاية المطاف الوجه الحقيقي لبيلي وايلدر: رجل لم يؤمن طوال عمره بالأحلام، وغالباً ما عانى من ذل وهوان واقع الحياة.
وإذا استعرضنا حياة هذا المبدع نجد أنه ولد في 22 حزيران عام 1906 في بلدة بإقليم غاليسيا التابعة آنذاك للامبراطورية المجرية: وقد عمل محرراً صحفياً في فيينا في صحيفة شعبية باسم الساعة . وبعد انتقاله إلى برلين استمر بالعمل الصحفي وبعد أن فارق والده الحياة يبدأ بنشر سلسلة من المقالات الساخرة والمضحكة في صحيفة محلية ببرلين، لكن يظهر اسمه أول مرة على الشاشة ككاتب سيناريو لفيلم (الصحفي الرائع) ثم يبدأ بكتابة سيناريوهات بعض الأفلام التجارية . وعقب وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا، يغادرها إلى باريس ليكتب سيناريوهات أفلام عديدة وينال جائزة الأوسكار عن إخراج وسيناريو فيلم «عطلة الأسبوع المفقودة» .
ويفوز أيضاً بجائزة الأوسكار عن فيلم (جادة الغروب) ثم يبدأ بإنتاج أفلامه شخصياً أما فيلمه «إيرما العذبة» فيسجل نجاحاً عالمياً باهراً وأخيراً يقوم وايلدر بإخراج آخر فيلم سينمائي حمل عنوان «بادي بادي» أو الرفيق عام 1981.
وقد كرمته جمعية لينكولن السينمائية في نيويورك كما حصل على جائزة غريفيث من نقابة المخرجين الأميركيين وجائزة «إنجاز العمر» من المعهد السينمائي الأميركي.
وفي عام 1989 يقوم وايلدر ببيع مجموعة لوحاته الفنية بمبلغ 32 مليوناً و 600 ألف دولار أميركي : وفي عام 2002 يرحل عن هذا العالم بتاريخ 27 آذار من منزله بحي بيفرلي هيلز في ولاية كاليفورنيا.
وطبعاً فإن هذه العجالة عن حياة وأعمال هذا المخرج الموهوب لا تكفي ولابد لمن يريد الاستزادة ويدفعه الشغف بعالم السينما من العودة إلى كتاب بيلي وايلدر من تأليف نويل سيمولو وترجمة محمد علام خضر الصادر عن سلسلة الفن السابع الذي يحمل الرقم المتسلسل 213، وهو من منشورات وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما في الجمهورية العربية السورية.
وقد أطلق اسم بيلي وايلدر على أحد شوارع البلدة التي ولد فيها ( التابعة الآن لبولونيا تكريماً له).
يقول وايلدر: إن مهمتي الأولى كمخرج تتمثل في تقديم ساعتين ونصف الساعة من الراحة والاسترخاء والمتعة والضحك لجمهور المشاهدين، إضافة إلى شيء بسيط يفكرون به بين الفينة والأخرى، ولكن دون حشو رؤوسهم برسائل جافة ومملة.