تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مــن المقاومــة إلى الــوجـــود

آراء
الأربعاء 19-8-2009م
د. غسان علاء الدين

في البدء كانت المقاومة فلو لم يكن ثمة وجود لأن تحقق الوجود وانبثاقه في أروع صوره ما هو إلا استبعاد لظهور كل الصور الأخرى الأقل كمالاً من الخفاء إلى العلن، الأمر الذي يعني أن الوجود في الوقت الذي يختزن فيه الوجود فعل المقاومة ذاتها، فكلاهما عين ذاته.

فكل مقاومة بهذا المعنى تهدف إلى غايتين لا ثالث لهما تسعى الأولى إلى خلق صورة جديدة تناقض الصورة القديمة القائمة بينما تسعى الأخرى لتصحيح الصورة القديمة والدفع بها نحو ما يعتقد أنه الأفضل والأكمل، ولكن إذا كان من الممكن أن نقف على أنماط كثيرة من المقاومة لا تخرج بمجملها عن تلك الغايتين فنحن لا يعنينا ها هنا إلا الحديث عن الشكل الأكثر بروزاً واحتراماً وقدسية في نظر البشر من بين جميع أشكال المقاومة الأخرى، ونعني به مقاومة الشعوب لأولئك الذين يسعون لحرمانها من حقها في الحياة والعيش الكريم واللائق في بقعة من الأرض يقطنونها ويبنون عليها مساكنهم ويحصلون منها معاشهم.‏

فهذا التعدي الذي يلحق بالإنسان ابن المكان والزمان لا بد أن يدفع به كي ينتج مقداراً من العنف يعادل إلى حد كبير مقدار القوة التي مورست عليه من المعتدي، فقد يقبل الإنسان وحتى لو بدا مخالفاً لطبيعته بعض الظلم والإحجاف من أولئك الذين يجاورونه المكان والسكن، لكنه لن يقبل أن يتعرض للإجلاء من المكان الذي يسكنه وينتمي إليه وحرمانه بالتالي من أبسط حقوقه في التعليم والسكن والتنقل.. الخ إذا كان هذا الأمر مرفوضاً وفق هذه الحالة من ذوي القربى وما يدور في فلكهم، فكيف الحال إذا كان المعتدي والمغتصب هو ذاك القادم من أمكنة قصية من العالم ليستوطن مكاناً وبقعة من الأرض ليس له فيها أي حق فيشرد أهلها ويطرد سكانها تحت حجج ودعاوى باطلة.‏

أليس من المنطقي عند ذلك أن تبرز مقاومة المحتل الغاصب كحالة مبررة ومشروعة على الرغم من النتائج التي قد تفضي إليها المقاومة أو تنتج عنها، أليست المقاومة وفق هذا المعنى هي ضرب من ضروب الدفاع الأخلاقي والمشروع عن الذات بما لها من حق اكتسب قوته وصدقيته من الشرائع والقوانين على اختلاف مصادرها الأرضية منها والسماوية.‏

إن الدفاع عن المكان أي مكان يستوطنه الإنسان ويحبه، هو الذي يؤسس لفعل المقاومة حتى لو أدى ذلك لكثير من الأذى النفسي والجسدي لأولئك الذين يهيئون له ويقومون به بهذا المعنى نجد أن كل مقاومة هي بشكل من الأشكال مغامرة لأنه من غير هذه المغامرة قد تضيع الأوطان ويختفي سكانها الأصليون من الوجود. فما دامت المقاومة لا تتأمل نتائج أفعالها، لكونها تدافع عن حق مشروع لا تجادل فيه لا بد أن تأتي نتائج أفعالها غير منطقية في بعض الحالات، ولاسيما وهي تقاتل عدواً يناقض بأهدافه ومبادئه تلك التي يدافع عنها الصديق الذي ينضوي تحت إطار المكان الذي تدافع عنه المقاومة.‏

فالحدود الجغرافية التي يدافع عنها المقاومون هي دار السلام بالنسبة لهم وكل ما وراء ذلك هو دار حرب، وعلى ذلك فكل من يسعى للاعتداء على دار السلام تلك هو عدو يجب مقاومته حتى لو أدى ذلك إلى استخدام أشد حالات المقاومة عنفاً، إذا فالعداء وليس السلام هو جوهر العلاقات السياسية بين المجتمعات التي يتصل كل منها بمكان جغرافي يحدد تخوم دار السلام التي يتنمي إليها كل مجتمع من تلك المجتمعات، فغزة بالنسبة للفلسطينيين هي دار السلام والأمان والحرية التي يجب أن تقف في مواجهة العدو الصهيوني الذي قدم من أرض بعيدة كي يحيل دار السلام تلك إلى دار حرب، إن المقاومة التي يؤسس لها أصحاب الأرض هي دفاع مشروع عن حق شعب تمتد جذوره عميقة في أرض أحبها وعاش عليها وأودعها طموحاته وأحلامه وأمانيه إن تلك المقاومة هي مقاومة من أجل الحياة حتى لو أفضت إلى إزهاق أرواح كثيرة من الأبرياء والأطفال والأمهات، لأن الموت في هذه الحال هو الوجه الآخر للحياة فلا مقاومة من غير تضحيات ولا مقاومة من غير دم.‏

ألم تكن الحياة في غزة قبل الحرب الإسرائيلية عليها شبيهة بالموت إن لم تكن هي الموت بعينه، ألم يكن الحصار والتجويع وسياسة التضييق أقسى بما لا يقارن بما عاناه شعب غزة أثناء الحرب، ثم أليست الحياة التي عانى منها شعب غزة قبل الحرب وأثناءها وبعدها حياة تشبه مواصلة الموت والتعود عليه، لا لأن الغزيين يحبون الموت ولكن لأنهم يدافعون عن الحياةالتي يريدونها عزيزة وكريمة.‏

ألم يقل محمود درويش شاعر فلسطين ونبضها في واحدة من قصائده‏

ونحن نواصل ما يشبه الموت نحيا‏

وهذا الذي يشبه الموت نصر... نصر... نصر‏

ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً‏

ونرقص بين شهيدين، نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا‏

نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا‏

ونسرق من دودة القز خيطاً لنبني سماء لنا ونسيج هذا الرحيل‏

ونفتح باب الحديقة كي يخرج الياسمين إلى الطرقات نهاراً جميلاً‏

ونزرع حيث أقمنا نباتاً سريع النمو، ونحصد حيث أقمنا قتيلا‏

ونكتب أسماءنا حجراً حجراً، أيها البرق أوضح لنا الليل، أوضح قليلا‏

نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا‏

نعم ليس ثمة من يكره الحياة، الحياة العزيزة الكريمة، ولكن لا أحد يحب الحياة التي تشبه الموت، الحياة التي يرسمها المحتل مزنرة بالمعابر والبوابات المغلقة علىالدوام ليقطع من خلالها شرايين الحياة والنبض عن غزة وغيرها من المدن المحتلة.نعم نحب الحياة، هذا هو حال البشر، ولكن بمقدار ما نستطيع إليها سبيلا، بمقدار ما نمتلك من وسائل نقاوم بها المعتدي ونرد ظلمه ونؤسس لحياة حرة نقية لائقة.‏

مدرس في جامعة تشرين‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية