يقول العلماء إنها انعكاس للضغوط التي يحياها الإنسان، لكن فيما لو تعمقنا أكثر نجد أن الأحلام تعبير صادق عما يجول في النفس من أمنيات لا تتحقق وأمنيات لا تجد طريقاً لها. وفيما يزعم علماء النفس أن الذاكرة هي التي تختزن ما يحصل مع المرء ثم توزعه أحلاماً، وهي انطباع متكرر يترسخ في الذهن، فذاكرة العادة اليومية غيرها الذاكرة الثانية التي تحتفظ بنسخة طبق الأصل عن جميع وقائع حياتنا اليومية بنسبة تسلسلها وتواليها، وتترك لكل حادثة، لكل حركة تاريخها ومكانها وتفاصيلها الدقيقة دون التفكير باستخدامها لأي أغراض أو غايات نفعية، إنها أيضاً تسجل الماضي بحكم جوهرها بصورة طبيعية تلقائية، نابعة من ذاتها، بفضلها نتعرف إلى الأمس من خلال اليوم، وتصبح العودة إلى الوراء ممكنة، فإذا بنا نعثر فيها على نفسيتنا المنسية.
في «الطاقة الروحية» «لبرغسون.. إن كل حياتنا الماضية موجودة بأكملها في أحلامنا، بأدق تفاصيلها، ونحن لا ننسى شيئاً، وكل ما أدركناه وفكرنا فيه وأردناه منذ بزوغ شعورنا يظل موجوداً في أعماقنا إلى النهاية».
هل الحلم حقاً التصاق بالماضي؟
في متطلباتنا المعيشية وأشغالنا اليومية ومساعينا من أجل لقمة الخبز يحتجب ماضينا عنا، فإذا حاولنا اجتياز عتبة الشعور نكتشفه ونتصل به كلما تجردنا من مآربنا المادية، ومن عبوديتنا وقانون المحافظة على البقاء، فإذا بنا، من غير شعور، انتقلنا إلى حياة الحلم، حيث نستعيد ذكريات كنا قد اعتقدناها مدفونة إلى الأبد، فإذا بها تفك عقالها وتتدافع من منطقة الظلام التي قذفت إليها، باعثة أمامنا فصولاً مطوية من طفولتنا.
إن إنساناً يحلم حياته عوض أن يعيشها يظل ملتصقاً بماضيه، كما يظل في مجال الفردية التي توالي جميع لحظاته في تيار مشترك تدمجها في بعضها، وتدغم تعددها وتنوعها وجميع صفاتها المحسوسة المميزة في حدس واحد بسيط.
الحلم هو الصلة بين الأحاسيس والذكريات المطبوعة في وجداننا على شكل أشباح لا تستطيع أن ترقى إلى النور إلا إذا انعتقنا من كابوس العمل الراهن، والحاجة الملحة، وعندئذ تعبر الحاجز الذي كان يصدها عن الخروج وتحطم القيود التي كانت تكبلها راقصة رقصة الأشباح في المقابر، متدافعة كلها معاً، لكنها كثيرة جداً لا ينفذ من الباب الضيق الذي انفتح في وجهها إلا ما كان له علاقة بحالتنا الانفعالية قبل النوم.
الغريب في الأمر، غالباً ما أرى في أحلامي أناساً رحلوا، أحببتهم، لكنهم في الحلم لا يتكلمون، ينظرون إلي بصمت، وعندما أحاول محاورتهم يختفون، دائماً أحلامي ملتصقة بالموت، ليس على شكل كوابيس، بل كأنه مشهد مستمر في الحياة، فلا يقلقني ذلك، ويتوجس الناس من رؤية طائر البوم في اليقظة أو الأحلام كذلك بقية الحيوانات كالقطط والكلاب والجرذان.. هذه هي حقاً أضغاث أحلام لا تفسير لها، ولكن عندما أرى باستمرار أهلي ورفاقي الذين رحلوا يكون هذا عزاء لي أنهم لم يفارقوا ذاكرتي.
إذاً، الحلم هو انبعاث للماضي على ثلاثة أنماط: ذكرى نسيناها نستعيدها بالمنام، أو حادثة كنا ذاهلين عنها حين وقوعها نتمثلها من جديد، أو نتف من ذكريات ملمومة من هنا وهناك دون أي صلة تربط بينها، إن الحلم يلقي على الأمور نظرة عجلى كما تفعل الذاكرة، ويعيش في بضع ثوان أحداثاً تقتضي بالفعل وقتاً طويلاً كشريط سينمائي نزيد سرعة بثه، فعندما نستعرض الماضي نختصره لأننا نعرف وقائعه التي تحققت وانتهت والتي نتمثلها لهذا السبب دفعة واحدة كشيء جامد لا كظاهرة نفسية تتم بالتعاقب والتدرج، لا يوجد ايقاع واحد للديمومة بل ايقاعات متعددة بحسب وعي الأشخاص الذين يقيسونها: إن الزمان شيء مطاط ففي دقيقة من النوم نحلم بأخبار استغرقت الأيام والأسابيع الطويلة، كما نستطيع أن نختزل حقباً تاريخية برمتها في بضع لحظات.
وفي هذا التوقد ما بين الحلم والحياة ظاهرة اختلف العلماء في تفسيرها، مثلاً، صديق ما لم تره منذ مدة طويلة، فتضع أصابعك على أرقام هاتفه لتتصل به وتطمئن عليه وهو في نفس الوقت والزمن يحاول أن يتصل بك، ويكتشف كل منكما أن خط الآخر مشغول، ثم تكتشفان أن كلاً منكما كان يتصل بالآخر في نفس الوقت، وبهذا المعنى حديث شريف أو ربما آية قرآنية لا أذكر نصها بالكامل تشير إلى أن الناس أرواح مجندة فيها من اتصل وفيها من اختلف.
هذه ساعات نمر بها فنشعر أننا قد رأينا هذا المشهد الذي نراه الآن، وسمعنا سابقاً الكلمات ذاتها التي نسمعها الآن، وأننا نقف في نفس المكان الذي سبق لنا الوقوف فيه ونعاني من نفس الظروف التي اختبرناها من قبل.
إن الحياة تتكرر دون توقف، في الظاهر والباطن، وعلينا أن نعبرها بأقل ما يمكن من الخسائر، لأنها برمتها مغامرة وطاولة برداء أخضر وأنامل توزع أوراق عمرنا دون توقف، وبالنتيجة، جميعنا خاسرون.