علي الجندي، منذ عقود من الزمان، وهو يغيب،
والمسؤولون في الثقافة والكتاب معنيون بـ «أنانيتهم المفرطة» والمصادقة على غياب الثقافة والإبداع والمفكرين وأسياد الأماني والأحلام المثمرة واللغة.. حتى طريقة التأبين والكتابة التي سيودع بها شاعر عاشق وحزين ومهجور مثل علي الجندي هي مشاركة سفيهة في تغييب بقائه الشعري وأثره الإبداعي، إذ يتشارك في تأبينه ورثائه جمهرة من دعاة التوديع والباكين والنواحين على أي غائب، وكأن كل من حمل قلماً ومد يده إلى محبرة صار شاعراً أو بليغاً أو مفكراً أو مطرباً ثقافياً من طراز ملك الطرب الفكري أو أحد حاشية إمارة الطرب الأدبي أو الخ.. أو من مشتقات الأدب الدارج الهابط أوالهارب من وجه الرقي الفني..
حاول علي الجندي أن يقضي على ملله، وأن يفك روحه من أسر الإهمال وإعلام الضجة والتضخيم الواهم، في أكثر حالاته أو في جميعها.. ربما صادفه النجاح، وربما فشل، وازداد ضجراً..
ترك الزوجة الأساسية، وانصرف إلى زوجة تالية.. ابتعد عن دمشق إلى سلمية، وإلى اللاذقية، لكنه لم يصل إلاّ إلى الحزن والمحاولات الفاشلة في القبض على فرحة القلب..
ظل يبحث عن العقل والحب، لكن دون نجاح في القبض على زمن الفرحة المثمرة، القادرة على إنعاش القلب وتبديد مأساته..
مثله مثل صديقه محمد الماغوط ترك أمه الأولى سلمية، ولم يرجع إليها إلا وجع غياب، وكلمات فقد، لاقيمة لها في عمر شاعر، ولافي غيابه، الذي ينبغي أن يكون غياباً ضخماً، بحجم الحضور والقصائد ونثريات الروح الباقية بين حيطان الكلام و شبابيك الرؤى والحبر وأسئلة الضمير الفنان..
علي الجندي فنان الأحزان، ومشارك بارع في إهمال عمره، وهائم على وجه لذّاته، غير المثمرة.. اللذات لاتساوي فرحة القلب، ولا تنتج سعادة روحية تكفي للأمل..
وفي حال الغياب يتزاحم على غيابه من لاعلاقة لهم بالقصائد أو أحلام الشعر، وسيطبخون الجمل الجاهزة، ويوزعونها على غياب علي الجندي، ليصير الغياب عبئاً على الغائب وثقلاً فجائعياً علىأثره الباقي، وهل أصعب من فيضان غياب يتلوه فيضان إهمال يجرف الأثر وموهبة البقاء الأدبي؟!.
المسؤولون في الثقافة والكتاب، ومعهم حشد المكتبة، و البكاؤون، علىأي غائب، شاعراً كان أو طبالاً أو سائق سرفيس شعراء.. ليس المهم من مات،بل المهم أن يموت أحد يمكن الكتابة عنه أو قربه أو حوله، أو شرقه أو غربه.. الموت محاولة توكيد للبؤس الروحي على حساب الموت والحياة والغياب والبقاء الكريمين..
نديم محمد قال ذات حزن: ليت الغياب يأتي في الظل، حتى يكون الشعر والشعراء بمنأى عن الكتبة النواحين، الذين لاعلاقة لهم بالكتابة الحقة.. ويزيحون الأحزان الكبيرة ويضعون مكانها أحزانهم السيئة غير اللائقة.
قبل انقطاع علي الجندي عن محاولات الحب والقصائد قدم شعراً عاشقاً وتجربة راقية في الحنين والعذوبة والبراءة الإنسانية..
واحد من المتمرسين بالأمل والطفولة المزمنة وأغنيات الوجد.. ومتمرس بالجنون ومحاولة القبض على لحظات اللذة، التي يظنها ستقوده إلى قلبه، فيراها تتعثر وتهوي قبل محيط القلب وحارة الوجدان، فيرجع إلى الحزن، صديقه الوحيد الدائم..
علي الجندي وفايز خضور ومطعم الشرفة، في اتحاد الكتاب، في دمشق، شركاء وندماء وأصدقاء، وشعراء دائماً وعشاق فاشلون، ويجيدون الترحيب والحفاوة بزوار كثيرين، لكن الوحيد الذي يبقى الحزن وشراع الأمنيات الغريقة للأحباب خيبات تكفي غرقهم ورغبة الأحزان..
فايز خضور وعلي الجندي صديقا الأحزان والعزلة المثمرة أحياناً.. ومبدعان حزينان أحياناً.. وأحياناً يلمان نثريات الأسى ونضارة الفقد..
ونحن على مشارف وداع علي الجندي التقيت الفنان التشكيلي العذب كغرام ساقية وجدول وضفتين مجدي الحكمية وقال لي: هل يموت الشاعر؟.
لاتموت القصائد، لكن علي الجندي واقع تحت ثقل غياب قديم ومستمر.. الحضور العصري يشمل المطربين والمطربات وذوي الصرخات والضجات، أما الفن والإبداع والفكر فحاله الغياب والأنات والأوجاع المزمنة.. عصر الإنسان التسويقي ليس إلا..؟!.
وقت الإبداع وطني وإنساني ومثمر.. وقت صادق ومتمرد على الركود الزمني..
والمبدعون لايستسلمون لفرضيات الزمن الخارجي.. بقدر انسجامهم مع وصايا زمنهم الخاص والداخلي.. المبدع الجميل يبرع بصداقة زمنه لا بالخضوع للزمن، لأنه يبني كيانه ليس بالجشع والجوع بل بالشبع الروحي..
من يقف في وداع الشاعر سوى شعره؟!.
من يقف في وداع الأحزان الضالة سوى الشاعر.!
علي الجندي عاش حزيناً وغائباً، ورحل حزيناً وغائباً ومهجوراً.. أثقل على روحه بحكمة النأي واللذات التائهة، التي لا تجيد الوصول إلى فرحة القلب، ولايمكنها القبض إلا على الحزن بعد الحزن، والغياب بعد الغياب.. المسؤولون في الثقافة والكتاب منشغلون دائماً بأنانيتهم وترتيب حاجاتهم غير الروحية، ولايجيدون العطاء والاهتمام، ولهذا فالفكر والفن والأدب في حالة من الحزن والظلم والإهمال.. والثقافة حاجات روحية، وعندنا المسؤولون في الثقافة والكتاب أبعد ما يكونون عن الحاجات الروحية...
كذبة أو شهرة أو سهرة (دلوعة) تساوي القصائد والمبدعين والأفكار والمفكرين، وترتيبات الثقافة والكتاب غير ثقافية وغير أدبية وغيرإنسانية بمدلولها العميق والراقي..؟!.
الزمن الذي يساوي بين الجمال والبشاعة وبين الثراء الروحي والفقر الروحي زمن خائن ومشلول العاطفة.
وزماننا من هذا النوع المصاب بشلل العاطفة والتعاسة الروحية والانحطاط الإنساني.. وإلا ما المبرر لممارسة كل هذا الغياب والإهمال على شاعر كبير مثل علي الجندي وعلى غيره من الشعراء والمفكرين الأحياء والأحياء، رغم كل مايصيبهم من أوجاع الإقصاء والإبعاد عن دائرة الحياة؟.
الجدل الدائر ليس بين الغياب والحضور، ولابين القصائد وجهل الكلام والحبر و الحب..
الجدل أكبر من طاقة الأحلام ومقدرة الروح والشعر. كأننا محتاجون لزلازل روحية تصدع خديعة إنسان الثقافة قبل الإنسان العادي.. محتاجون لترميمات تشمل روح الحياة المسيطرة على السلوك الإداري.
الفن جمعية بطولة محبة ومسؤولية حب وخبرات سعادة روحية غيرتسوقية..
الفن الشعري طاقة تصل بين الإنسان وزمنه الإنساني، وتدفع عن الإنسان همجية الجشع والعلاقات التملكية.. ولايحق أن نكون - في زحمة الجشع والتسويق صدى التسويق والجوع على حساب حاجاتنا الروحية وبطولة المحبة.
البطولة العصرية وثنية ومتوحشة.. والإبداع والفكر الإنساني جمال وبطولة محبة وثراء روحي ممكن ومرجو..
علي الجندي صادق تجربة طرفة بن العبد وتمرد مثله واعتنق اللذات وارتمى (وحدي مرمي فوق صخور الدنيا)..
ألم يقل طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
وكذا الشأن والغياب والنهاية والموت عند علي الجندي
شاعر البحث عن اللذة والإيمان بالجسد:
(عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة
امنحوني شكل موتي.. رحلتي المنكسرة
ودعوني احتفي بالميتة المتفجرة
شيعوني أنا والنغمة في موكب صمت
شيعوها لغتي المنتصره
امنحوني قينة ماجدة، وحشية الإيماء رحباً جسمها (محطوطة المتنين غيرمفاضة) محلولة الخصلات، انثى تمره..
واجعلوها حول منفاي النهائي، تغني..
وتغاوي الريح والليل برقص همجي وخطا مستنفره
ودعوا جنبي دّناً عبقرياً فائر الروح، عظيم الثرثره)
ويختار علي الجندي الرجوع النهائي إلى سلمية، حيث عاش طفولته ولعب وغنى وقد طلب هذا الرجوع في وصية شفهية أخبرها لولد أخيه الإعلامي والناشر المعروف مصعب الجندي. صدر لـ «علي الجندي» العديد من المجموعات الشعرية.
(طرفة في مدار السرطان) وأكد أن طرفة بن العبد البكري هو شاعره النموذجي منذ أن عرفه في مطلع الشباب واستمر حتى الخاتمة.
وصدر له في زمن تجربته الشعرية الأولى (الراية المنكسة) و(في البدء كان الصمت) و(الشمس وأصابع الموتى) وصدرت له أحزان وأسئلة: (النخلة) و(القطارات) و(البحر الأسود المتوسط) و(الحمى الترابية) وقصائد ودواوين وحوارات وأوجاع..
وجمعتها في أعمال كاملة جورجيت عطية..
ترك دمشق،لكنه لم يترك دنّه العبقري عظيم الثرثرة، وظل يبحث عن القينة الراقصة المستنفرة وظل يلوذ بحيطان الجسد ويركض في براري اللذات.. وفي سنواته الأخيرة حاصره الغياب والإهمال، وحاصرته أعباء الجسد الذي توكأ عليه ، والتجأ إليه.
علي الجندي المتمرد المأخوذ باللذات والبهجة والنضارة والمتأنق إلى حد الحب باللغة الشعرية والأحاديث اليومية والمزحة والضحكة يتزاحم عليه الغياب ويسرقه من وقته الحالي المستقطع لصالح (حمى التراب) الذي تغنى به وأحب مصادقته، وهذا ماقاله غير مرة لـ «مصعب سامي الجندي» عند عتبة الرحيل..