إذ غالباً ما ترى معنىً يتكرر لدى هذا الشاعر أو ذاك، وليس من باب سوء الظن أنه سرقه أو سطا عليه حسب مصطلحاتنا اليوم، بل لنخفف ونعود إلى قولهم وقع الحافر على الحافر وهذا مسوغ أو مخرج، ولكن ماذا لو أنه أعاد سبكه وصياغته وعلى أساس أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق.. إذا كان هذا يحصل داخل أدب الأمة الواحدة فكيف استعار أدبنا من الآداب العالمية أشكالاً فنية وتجارب إبداعية.؟ هل تمثلها جيداً؟ أعاد صهرها وتقديمها معجونة بأنامل مبدعيه.. هل علاقة تمازج وتفاعل ثقافي؟..
دراسة ناضجة ووافية ومعمقة جاءت تحت عنوان: التجليات الفنية لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر /صدرت حديثاً عن دار الزمان في دمشق، وهي للباحث د. أحمد ياسين السليماني.
كتاب جديد
د. عبد العزيز المقالح يقول في تقديمه للكتاب: يناقش الكتاب موضوعاً، وإذا شئنا قلنا ظاهرة لم ينشغل بها النقد الأدبي من قبل سوى عبر تناولات جزئية صغيرة كما لم يلتفت النقاد إلى رصد مفهوماتها ومكوناتها الكبيرة، وهي في هذا الكتاب تأخذ هيئتها الواضحة بعد جهد جيد من الباحث، ومن خلال تناوله ملامح من إبداع شتت شعراء، أيقن الباحث أنهم تمثلوا هذه الظاهرة وساعدوا على استجلاء أبعادها الفنية والتعمق في تفاصيلها وتجلياتها واستقراء ملامحها ليس عبر التنظير وإنما عبر التطبيق والمتابعة ويضيف د. المقالح: ينتظم كتاب الدكتور أحمد ياسين في أبواب ثلاثة بالغة الأهمية لكن أهمها وأجملها بالتفاصيل الباب الأول وهو عن تأصيل الظاهرة وما يشكله بفصليه من خصوصية في التناول ومن عرض متميز لظاهرة الأنا والآخر بإرثها النظري ومنظومتها التاريخية الواسعة.
الظاهـــــرة..
في الباب الأول الذي جاء تحت عنوان: استجلاء الظاهرة وتأصيل مجالاتها يقدم الباحث من خلال فصلين مجموعة عناوين مهمة تغطي مساحة زمنية طويلة ويمكن أن نشير ولو سريعاً إليها مثل: التجليات الفنية البدئية/ متصور الأنا البدئية لرؤية العالم/ المتصور التجريبي العملي (السحر/ الأسطورة/ الخرافة التصور التجريدي (الغيبي) المانا/ الأرواح/ روح الطوطم/
- ثنائية الصراع في الشعر الملحمي والمسرحي: الأنا الجلجامشية الأناشيد الهوميرية/ ثلاثية أوريست/ التحليل الفلسفي للأنا والآخر.
وفي الفصل الثاني ينتقل إلى دراسة البنى التكوينية لعلاقة الأنا بالآخر في الموروث العربي من خلال: ثنائية الأنا والآخر/ الأنا المسلم والآخر الجاهل/ حلف الفضول/ الهجرة إلى الحبشة/ متخيل الآخرية في الوعي الإسلامي.
- الأنا بصيغة الجمع الـ (نحن).
في هذا العنوان من الدراسة يرى الباحث أن الشعر العربي انتهل بلا شك من معين الضمائر بأنواعها المختلفة ولكن الشعراء تفاوتوا في درجات هذا الانتهال فمنهم من أفاض نهلاً منه حتى فاضت قصائده بالضمائر، ومنهم من نأى بنفسه أوقاتاً عن هذه الكثرة بمعنى عن استخدامها.. وأزعم في هذا الصدد أن أدونيس الذي استدعى ضمير أنا كثيراً في قصيدة (صورة يأس) وفي بعض القصائد التي صوّر فيها نفسه بأن شبهها بغيرها من الأشعار كأن يقول: (أنا غيمة) (أنا الشاسع) وغير ذلك قد فرض عليه شكل القصيدة الذي اعتمده الشكل المقطعي ذلك وأبعده أسلوب كتابة القصيدة الحرَّة أو النثرية من كثرة استخدام هذا الضمير.
ويخلص إلى القول: كان أدونيس حين يجمع الـ (أنا) بصيغة الـ (نحن) يعمل ذلك غالباً في أثناء حديثه مع آخر مفرد قريب منزلة منه فيجمع أناه مع الآخر المفرد كأنه جمع الكثرة لتدل الـ (أنا) على الفاعلين الكثرة، وفي بعض المواضيع التي يذكر فيها الكثرة وهي قليلة تدل تلقائياً على ذلك.
كلمة أخيرة...
الكتاب بشهادة د. المقالح بحث أكاديمي مهم ومتميز وهو جديد في أسلوبه وطرحه ويدل على أن النقد الأدبي ليس كما يتهم اليوم بأنه خارج الاهتمام، بل يمكن القول: إن ثمة نهضة نقدية نشهدها ولكن داخل الجامعات.
على كل حال الكتاب جدير بالقراءة والاهتمام وهو من ضمن الإصدارات المتميزة لدار الزمان في هذا السياق.