وكان قد سبقها صدور مجموعته الشعرية الجميلة عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان: سلاماً مواعيد قلبي دمشق, وبعدها جاءت ايضا عن الهيئة مسرحيته (رجل الثلج) ولكن الذروة التي تجعلك تقف أمام الجرح الذي غدا أكبر من مساحات الروح والجسد, ملحمته (تغريبة أهل الشام) والتي سوف تصدر قريبا كما أشار الشاعر, تصدر ضمن مجموعة تحت العنوان نفسه, عن الهيئة العامة السورية, الملحمة التي يروي فيها الشاعر حكايا الألم والأمل شلال من اللهفة والحنين والرواية التي تمزج بين الكثير من عناصر الدهشة التي تجعلك أمام سيناريو يستعيد آلاف السنين, يكثفها, يقدمها, يرويها, يضعها في شرايينك, لايمكنك أن تغادرها, وكما كانت ملحمة الشاعر ثائر زين الدين مشاهد سورية, نابضة بهذا كله, تأتي تغريبة أهل الشام, ليكونا معا من ديوان الالم السوري, من جرحه من حبر الحرب, وما اغزره, ولكن ليس كل الحبر حبرا, بعضه ماء سريع لايروي, ولايقدم, ليس مضمخا بدماء من ارتقوا لنبقى, هنا الأمر مختلف تماما, تمضي وأنت تحمل روحك بين يديك, تعبر أفق الوطن بين قوافل الشهداء, تتراءى أمامك أحلام كانت وعبرت, واخرى تولد مع زهرة تنمو فوق ضريح شهيد, مع عودة كل حرف ولثغة كل طفل, الملحمة طويلة وطويلة, لكنها دفقة واحدة, ببنية عضوية وقدرة فنية على السبك وشد القارئ إلى مرافئها:
حينَ انطلقتْ من شاطئِ فيروزٍ وزَبرجَدْ
تغريبةُ أهلِ الشامِ الكُبرى
نحو المجهولِ الأدرَدْ
كانتْ روحي ذاكَ البحارَ المُجهَدْ
وعلى درجاتِ المَركبِ كنتُ على جرحي أصعَدْ
الحلمُ سفينةُ رحلتِهم
كانت كنداء ذاكرتيْ
والرؤيا كانت أشرِعتَيْ
أتخبَّطُ فوقَ المركِبِ نحوَ المِقوَدِ باللمس...
أستجمعُ محموماً بأسي
لم يُكسَر بَعْدُ الصاري
والرعد صدىً لصدى هَمسي
أتبينُ سمتَ الإبحارِ
الظلمةُ شدقٌ مفترسٌ
والموجُ كأنيابِ اليأسِ
وأنا أتمسَكُ كالملهوفِ بحبلِ نهاري
الريحُ تصارِعُ أشرعَتيْ
تَتَمَرى بي كي تعصفَ عكسي
دوار أوهام تترى
تتماوجُ كالجسدِ العاري
كنتُ المتفائلَ مثلَ العاشقِ
كانتْ أغنِيَتي شمسيْ
واليومَ يُغادِرُني أمسي
لا ألمحُ آفاقاً لِغَدي
وأيادٍ تدنو... مُنقِذَتي أم قاتِلتي؟
الطعنةُ غارتْ في كبِدي
عبَرَتْ كالومضَةِ خاصِرَتي
لكنّي ألمحُ سكيناً
مازالتْ تقطرُ وسطَ يَديْ
.. من أجبَرني أنْ أرحلَ للزمنِ النحسِ
زمنٌ أعماني أدماني
كعويلِ المأتمِ في العرسِ
يتهدَّجُ صوتي مهموساً
لأخطَّ الروحَ بأشعاري
إمّا أنْ نعلو كالعنقاءِ معاً
كشعاعٍ للفجر الضاري
أو أحفرَ بالإيقاعِ الدامي هوةَ رَمسي
وأنا أدري ما ينبئ حَدْسي:
أنّي أذْ أرثيكم... أرثي نَفسي
وحين يلتقط الشاعر وقائع الحرب المجنونة على سورية, يقدمها برؤيا تبحر في العمق, تبحث في تفاصيل الزمان والمكان:
ويساوِمُني وهمُ النسيان:
قد جاوَزْنا قِمماً وصخورْ
وعبَرنا اوديَةَ المَحذورْ
في دربِ الثلجِ لنا بَصَماتْ
في دربِ الشوكِ لنا عَثَراتْ
كم كادتْ تبلَعُنا الغاباتْ
فلننسَ هنا عِندَ الشطآنْ
آلامَا يحضنها الماضي
فالقادم سرٌ مجهولٌ
لن يوضِحَهُ النصلُ الماضي...
قد ظل الحلم بأن نلقى
مأوى وِمراسي
أملاً بالطاعمِ والكاسي
مذ غادرْنا الشطَّ القاسي
انكبَّ على الشطِّ الكَبِدُ
أطفالٌ لا يُحصى العددُ
ما زالَ على الرملِ الجَسَدُ
جرحٌ قد أدمى أكواناً مُذ أنَّ لمرآهُ الأبدُ
السُمْرَةُ قبلةُ تذكارٍ لشعاعِ الشمسِ
على البشَرَةْ
لكنَّ الأحياءَ الأمواتْ
باتوا أكفانا منتشرة
عشِقتْ تابوتَ النِسيانْ
أكفانٌ أكفانٌ أكفانْ
يا مَنْ تهوى قتلَ العُشّاقْ
زُلفى لزعيمِ الجرذانْ
وتبيعُ تفاسيرَ القرآنْ
لشرائعِ يهوةَ بالمجّانْ
الأعظمُ لايرضى
تمزيقَ العهدِ وطعنَ ملاذْ
ما كانَ محمدُ عبرياً
تنبيك رؤى حكم ابنِ معاذ
ماذا فعل الهنديُّ بأعناق الشذاذ
ما زارَ جدارَ المَبكى كالغُربانْ
بل جاءَ الأقصى فوقَ بُراقْ
يا مَنْ أهدى لأبي لهبٍ كِنزَهْ
تستهوي مَن قد أدمى عنقَ القدسِ
وحزَّهْ تستقوي بالكلبِ المسعورْ
هل تذكرُ يا عرّابَ الزفةِ غزَّةْ
لكأنَّكَ لا تدري ماذا بِحماها
قد فعَلَ الفوسفورْ
إنْ رمزُكَ عتمُ الديجورْ
والحامي حفارُ قبورْ
فلقَد أهداهُ شعاعُ الشمسِ الطاهرِ رمزَهْ
كالذئبِ أذلَّكَ طبعُ الغدرِ
وقهرُكَ للمظلومِ أعَزَّهْ
مكتوبٌ في مرآةِ النورْ
بالبرق سُطورْ
أنَّ الأمجاد ستبقى واضحةً
كرفيفِ طيورْ
والخِسَّةَ سمٌ غدّارٌ في نابِ الأفعى
وسْطَ جُحورْ
والطعنةَ في الظهر
تُذِلُّ الغادرَ لا المغدورْ
النشيد السابع
إنْ وسْطَ سمائي اختالتْ غربانُ البُغضْ
وطَني الصادي
سيظلُّ يُنادي انتَ نُسوري
جسرٌ أنت
أنّى قضَمَتْ
جرذان الغدرِ خطوطَ الوَمضْ
وطَني الصادي سيظلُّ يُنادي
أنتَ جُسوري
اكسيرٌ أنت
وحين يعلق الشاعر على ملحمته هذه يقول:
«القصيدة ليست صعبة كما قد يبدو للوهلة الأولى، كل ما في الأمر أن تلقيها يحتاج إلى متابعة بنائها الدرامي فالنص أشبه ما يكون بقصة شعرية تتحدث عن سيرة شعب، وهي تعتمد على خطين رئيسيين في بنائها الدرامي (المقاطع التي تتحدث عن مسار التغريبة وحيثياتها وهي مبثوثة في بداية كل نشيد وتحتل أيضا النشيد الأول والثالث والأخير) وخط آخر يستنهض التاريخ للكشف عن أسباب المصاب ويستنطق الواقع ويستشرف المستقبل لتحديد المسار نحو الخلاص والوصول إلى شط الأمان».
نعم, سورية اكسير الحياة, والشام هي وطننا السوري, من الماء إلى الماء, وبحدود الجغرافيا كاملة, غير منقوصة.