وقيل حينها: إن عصر السيادة الأميركية على النظام الدولي عبر سياسة القطب الوحيد الممثل لشرطي العالم سيطول أجله، وقد تدوم قيادة أميركا لنظام العالم بكامل منطق الهيمنة والخطاب الحربي طيلة القرن الحادي والعشرين، بعد أن يكون القرن العشرين قد انتهى.
وعلى هذا المقتضى بدأ نهج الغطرسة الأميركي على مؤسسي الشرعية الدولية واضحاً، وصار القرار الدولي هو قرار الإدارة الأميركية وخارجيتها، كما صار نظام أميركا الدولة مرشحاً ليكون النظام الدولي المزمع، وصار أسلوب الحياة الأميركية، والنزعة الإثنولوجية القائمة على تفوق الأنكلوسكسونية على شعوب الأرض يُرفعان إلى صورة إيديولوجيا كونية جديدة تحل محل جميع العقائد التي كانت سائدة في عصر القطبية الثنائية ( الشيوعية ورأسها الاتحاد السوفياتي ).
ومن العجيب أن منهج الاختراق للعقل الدولي في ذلك الزمان ( من 1985 – 1991) قائم على أساس سقوط العقائد ولا سيما العقيدة الشيوعية، وسقوط الأحزاب الإيديولوجية والعقائدية، وسقوط الدولة الإيديولوجية، وانتصار النهج النيوليبرالي في جوهره التعددي والتداولي،والحقوقي، واشتعلت ماكينة التضليل النيوليبرالية تروّج إلى عالم خالٍ من الأحلاف السياسية والعسكرية المتصارعة، وإلى عالم يسود فيه السلم والأمن والاستقرار وتستبعد منه سياسات شفير الهاوية، أو التهديد بالكارثة النووية للبشرية باعتبار أن توازن الرعب الدولي كان العلامة الفارقة في النظام الدولي ثنائي القطبية .وما إن سار العالم في المجرى العالمي الجديد بالقيادة الأميركية المنفردة التي لم تقبل لأحد أي مشاركة في صنع القرار الدولي حتى كثرت معادلات الرهان على مقدار التأهيل الأميركي لهذا الدور، ومقدار قدرة أميركا على أن تمارس سياسات الحياد والنزاهة والعدل الدولي، وقد قال حينها يفغيني بريماكوف السياسي الروسي الكبير في كتاب له بعنوان « العالم بعد حوادث الحادي عشر من أيلول 2001»: ( إن أميركا لا تملك الرصيد الأخلاقي التاريخي كي تكون قائدة للعالم وتنجح في قيادتها العالمية).
وبالفعل منذ أن بدأت الهيمنة المطلقة على القرار الدولي اتضح للأمم المختلفة أن المهيمن الحقيقي هو اللوبي الصهيوني في الإدارة الأميركية، وأن أميركا ليست لها سياسة في ما وراء البحار إلا ما تخططه الصهيونية لها من سياسة وقد تصادمت في هذا المنحى مع أصدقائها التقليديين في العالم وعلى رأسهم أوروبا العجوز من وجهة نظر أميركا، ولا سيما في تغليب المصالح الأميركية والصهيونية على مصالح أي دولة في أوروبا، فعارضت التوجه نحو الوحدة الأوروبية، ودفعت أوروبا حتى تساهم بتقوية حلف الأطلسي ومدّ خارطة تموضعه إلى آسيا الوسطى، وصولاً إلى أوراسيا، وتطويق الاتحاد الروسي قبل مجيء بوتين وفرض منطق الهيمنة عليه ثم الاستتباع، وقد حدث شيء من هذا في مرحلة قيادة يلتسن لروسيا، أي قبل مجيء بوتين. ومن الطبيعي عبر هذا الشكل من الهيمنة على القرار الدولي ومؤسساته أن تشن أميركا الحرب على العالم، وأن تساهم في تسعير نارها في القارات خدمة لمصالح هيمنتها وطرائق تغوّلها على الحالة العالمية.وقد أسقطت أميركا – نتيجة لتحكم اللوبي الصهيوني فيها – كافة ما قدمته من شعارات, ومن تخرصات حول حلول منهج التفاهم الدولي بدل الصراع، وتبادل المصالح بدل الاستحواذ المنفرد. ولكن هذه الشعارات قد طرحت بالأساس لكي تمثل جسر العبور الأميركي نحو تمكين الهيمنة والامساك بالإرادة العالمية وتوجيهها بكافة الوسائل ولا سيما الحرب. وبالنتيجة قد خسرت أميركا كافة حروبها التي خاضتها لكونها حرباً عدوانية من احتلال أفغانستان والعراق إلى التدخل في كافة دول آسيا وأفريقيا وخروجها خاسرةً أيضاً.
واليوم حين يناقش مجلس الأمن الدولي المسألة السورية بناء على قرار جامعة المستعربين المتصهينين وتستخدم روسيا والصين حق النقض للمرة الثانية خلال شهور ثلاثة وتُفشِلان قرار الغطرسة الأمروصهيونية المتحالفة مع أوروبا الذي تم تخريجه باسم مبادرة الجامعة الغربية لما فيه من نوايا مبيّتة حول التدخّل العسكري المباشر في سورية، وتدمير هذا البلد المقاوم للسياسات الأمروصهيونية، والذي ما زال الحليف الأقوى لحركات المقاومة العربية، وللخط المقاوم العربي ضد أميركا وإسرائيل وأوروبا المتطلعين إلى حقبة جديدة من الاستعمار الكولونيالي، وحين تصل الجدية بالقرارين الروسي والصيني عبر منظومة البريكس، وهي المنظومة الأقوى في اللحظة العالمية الراهنة لاستخدام الفيتو المزدوج مرتين خلال فترة قصيرة، ومن أجل دعم الحق السوري المُعتدى عليه، والسيادة السورية المهددة فإن الحدث يومئ إلى لحظة ذُروة عالمية للهيمنة الأميركية المروّضة صهيونياً، وبه نستطيع القول: إن الرابع من شباط لعام 2012 قد شهد أهم حدث دولي منذ عقدين من الزمان وهو سقوط النظام الدولي القائم على القطب الوحيد المهيمن بأقصر زمن وبدء الإشارة نحو التقدم لعالم متعدد القطبية، ومن المجال السوري حصراً لما يمثله من حصن منيع في المجال الحيوي للدولتين العملاقتين ( روسيا والصين). وبهذا الحال صار التحوّل العالمي الكبير قادراً على استعادة التوازن الدولي وتأمين المصالح القومية للأمم، وبعث روح العدل في مؤسستي الشرعية الدولية، وفي إيصال رسالة إلى المتآمرين على سورية مفادها أن الطريق مسدود من هذا الاتجاه، وزيارة وزير خارجية روسيا مع رئيس الاستخبارات حدث له دلالة كبيرة في ما تقدّم.