تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ألوان وأزمنة

آراء
الخميس 9-2-2012
حنان درويش

كلما مضت بي السنون إلى الأمام، تذكرت جدتي، وتذكرت طفولتي معها فقد كانت الأقرب إلى نفسي والحضن الدافىء الذي أهرع إليه كلما ضاقت بي الحال، ما أذكره عنها أنها كانت اختصاصية بالاقتصاد عبّها هو البنك المحلي الذي تودع فيه ليراتها والذي تحيطه كل ليلة بالحجب والبسملات وتقرأ عليه سوراً وآيات قرآنية حفظتها عن ظهر قلب.

فمردود خبز التنور مع مردود بيع الحليب والزبدة إضافة إلى ماتحصِّله من جدي حين يعود مساء يؤول إلى محفظة قماشية تنام قرب قلبها على الدوام، بسجيتها الفطرية اكتشفت أن مخزن الإنسان هو عبه وعرفت كيف تحجب عن العيون حصيلة تعبها وتخبىء قرشها الأبيض ليومها الأسود.‏

أخذت أمي عن أمها الطريقة ذاتها في التدبير وترتيب الأمور وحسن إدارة المنزل ووضع كل أمر في نصابه لكنها لم تستطع أبداً أن تجمع كما جمعت جدتي ولم تقدر أن توفر بالطريقة نفسها ولم تقتن صندوقاً خشبياً مرصعاً تضع ضمنه خصوصياتها لكنها عرفت كيف توزع راتب والدي على عدد أيام الشهر وعرفت كيف توفر مبلغاً محدداً منه للحالات الطارئة ولولا حسن الإدارة هذا لما استطاعت تربيتنا وتعليمنا ولما تمكنت أن تؤمن لنا سكناً معقولاً ردنا عن التنقل بين بيوت الأجرة وحمانا من جشع واستغلال بعض المؤجرين وطمعهم، كل ماقامت به كان يبرمج وينفذ حسب دراسة مسبقة وحسب حكمة ودراية بالأمور على الرغم من تبدل ظروف الحياة بعض الشيء وتغير مجرياتها عن ذي قبل فالمسيرة الشهرية باتت تعتمد على مبلغ معين عليها أن تقسمه بخبرة المرأة الذكية لذلك ماشعرت يوماً أننا نمر بضائقة مالية حقيقية كما يحدث الآن ولم أسمع أنها استدانت من أحد لكن الأمور كانت تمشي بشكل طبيعي دون الحاجة إلى القلق أو الأرق أو الحيرة وقد كان لأمي نظرية تقول: إن الدين هو هم في الليل وذل في النهار هذه النظرية لم أستطع أنا تطبيقها على الرغم من قلة عدد أفراد أسرتي الجديدة بالمقارنة مع عدد أفراد أسرة أهلي وعلى الرغم من وجود راتبين معقولين- إن صح التعبير- فإن الهم الذي يلاحقنا في الليل والذل الذي يتبعنا في النهار قائمان ضمن حياتنا يعيشان معنا لايفارقانا أبداً فكلما تقدم بنا العمر ازدادت المسؤولية حجماً وكلما كبر الأولاد تنامت المطاليب وكلما رتقنا ثغرة رأينا مقابلها ألف ثغرة وكلما منينا النفس بانخفاض الأسعار كانت النتائج لنا بالمرصاد هموم تزداد وأعباء مادية لاتنتهي وأبناء لنا يكبرون ويقارنون بيننا وبين الآخرين الذين يتباهون علينا بما يملكون.‏

ويسألني الأولاد على الدوام:‏

لماذا لانملك مثلهم يا أمي؟‏

حيال سؤالهم المر وما يضعونه أمام عيني من مفارقات ألوذ بالصمت وأتذكر جدتي ثم أمي مروراً إلى الوضع الراهن وأجيب على السؤال المحير بسؤال أكثر حيرة.‏

ماذا تراها تخبيء لكم الأيام؟!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية