لكن السيِّر التي نتحدث عنها كانت متعلقة بالنخب التي كتبتها إما على شكل سرديات ذاتية أحيانا.. وأحيانا على شكل سرديات روائية شكلت قناعا للحديث حول المسكوت عنه.. في حقبة ما من حياة السارد.. أو في عصره..
غير أنني أعتقد أن السيرة الذاتية التي كتبها بعض العرب من الأدباء والمثقفين أو السياسيين كانت أقل جرأة وبالتالي أقل شفافية بسبب من الظروف الذاتية لكتابها وبسبب الظروف الموضوعية للمحيط الذي عاشوا فيه..
ومن هنا يمكن القول إن السيرة الذاتية المطلوبة في أيامنا العصيبة التي نعيش ليست سيرة الشخصية النخبوية، وليست هي السيرة التي تسجل شهادة على عصر، أو حقبة، ولكنها السيرة التي ينتمي أصحابها إلى القطاع الأعرض من ناس المجتمع.. بمن فيهم المهمشون.. أو الصامتون.. ولكن أغلب هؤلاء بالضرورة لايمارسون الكتابة، وهم أبعد كثيرا من أن يكونوا كتاباً.. وهو مايطرح إشكالية حول كيفية الوصول إلى سِيرهم.. التي قد تكون وضمن مانعيشه من أحداث في وطننا العربي على إيقاع دموي.. لم يسبق لهذا الوطن أن واجهه.. أو عاشه خاصة وان الوطن العربي عاش طوال مايزيد على قرن من الزمن مراحل مختلفة اتسمت بطابع الكفاح من أحل الاستقلال أولاً وفي سياق حركة التحرر الوطني العربية ثانيا ً.. هذا من جهة ومن جهة أخرى ثمة في واقع المجتمع العربي شريحتان تشكلان بنية الأساس.. أعني بهذا الرجل والمرأة مضافاً إليهما الجندي الشهيد والجندي الذي مازال يقاوم في أرض المعركة على امتداد الارض السورية تحديدا.. وذلك كل على حدة.. أو كل في علاقة أحدهما بالآخر... وعلاقة كليهما بالمجتمع الذي يعيشان فيه وبمؤسسة الدولة.. وبالعالم من حولهما وكيف عاش كل منهم حياته، وكيف رآها.. في سيرة زمنية لاتزيد على اليوم الواحد، أو الأسبوع الواحد، أو الشهر الواحد.. أو السنة الواحدة، أو الحقبة الواحدة.. أو العمر كله.. كل حسب حجم المعاناة والتجربة التي عاشها.. فقد يعادل اليوم الواحد عصراً بكامله.. وهكذا الأسبوع.. والشهر والسنة والعمر كله بالتالي...
السؤال الآن هو كيف نصل إلى هذه السيرة لكي نقدمها إلى المتلقي.. فالسيرة الذاتية للشخصية النخبوية غالبا ما تجيء تحت مؤثرات ثقافة تحيطها أو تغلفها بالزخرفات والادعاءات.. والأكاذيب أحيانا.. بحيث يرى النخبوي إلى ذاته كما لو أنه يتحدث من فوق الاحداث والناس والعذابات.. لكي يبدو في سيرته كما لو كان أحد الأنبياء الجدد.. وذلك بسبب من كونهم مثقفين غير عضويين أو بسبب من كونهم أقرب إلى الشخصيات الزائفة مهما بلغت موهبتهم في الكتابة من تفوق.. من هنا لابد من توفر شرطين ضروريين لتحقيق هذه الرؤية للسيرة الذاتية الجمعية.. الأول هو وجود صحفي ناشط.. ومثابر أقرب إلى المؤرخ المنقَّب الحفار عن الآثار الكنوز.. فالصحفي المشتّرط وجوده ليس صحفيا ً عاديا.. بل هو المثقف العضوي موسوعي الثقافة القادر على طرح الأسئلة وتوليد الاجوبة من أصحابها.. الذين نتحدث عنهم.. أولئك الذين يعيشون تجارب اليوم الواحد والشهر الواحد والسنة الواحدة، والحقبة الواحدة.. والعمر الواحد إذ قد يكون اليوم أو حتى اللحظة بمثابة العمر كله.. وهي لحظة مشحونة بالتفاصيل وفيها مافيها من معاناة صاحبها تحت وطأة حصار أو لحظة قتل.. أو لحظة مقاومة.. من المنزل إلى الميدان الأرحب على مساحة جغرافيا القرية أو المدينة أو القطر.. أو الوطن العربي.. والعالم..
الصحفي هنا هو المتلقي الاول الذي يكتب.. الامين على مايتلقاه.. مايجب أن يمرره إلى المتلقي العام.. بحيث تغدو السيَّر الذاتية مجتمعة تعبيرا عن الحالة الجمعية للمجتمع بكليته..
الشرط الثاني.. هو وجود منبر واسع الصدر.. صحيفة كان.. أو مجلة.. أو دورية ثقافية تلغي التحفظات على المادة بحيث تصل إلى المتلقي كما أرادها السارد صاحبها.. والصحفي كاتبها.. أما إذا تعذر هذا المنبر على هذه المستويات فالمنبر الوحيد المتاح هو الكتاب.. ولكن الكتاب لكي يصل إلى المتلقي مشروط أيضا بوجود دور نشر رسمية، أو غير رسمية.. تقبل بنشر هذا الكتاب مقابل مردود يتيح للصحفي أن يغطي تكاليف جهدة وتنقلاته للوصول إلى صاحب السيرة وتوصيل رؤيته ورؤياه إلى أوسع قطاع ممكن من المتلقين.. بما يشترط أن يجيء الكتاب في طبعة شعبية رخيصة الثمن.. وقدرة على توزيعه على اوسع نطاق.. حتى لا يظل حبيس المستودعات ليأتي المطر بعد ذلك فيغرقه كما أغرق الكثير من الكتب القيمة التي تكلفت جهات رسمية عديدة في إعدادها و إصدارها..
هذا النوع من كتب السيرة ولكي يفعل ويؤثر يجب أن يصل إلى المدارس، والجامعات.. والأرصفة والمكتبات والبيوت.. ويجب أن يكون متاحاً الوصول إليه على مدار الفصول..
يبقى السؤال المطروح.. ترى هل من الممكن الوصول إلى هذه السير الذاتية الجمعية ضمن هذا الإطار.. الجواب.. ممكن إذا ما توفرت لإصدارها العوامل التي تحدثنا عنها..
إن السيرة الذاتية الجمعية التي تمثل شهادات على الذات.. والأحداث والعصر.. هي المطلوبة الآن.. فاليوم الواحد في حياة أيامنا يعادل حياة كاملة.. وهي التي نستخلص منها الدروس لكي نغدو غداً قادرين على اجتراح الحياة التي نطمح إليها.. ولكي تغدو الأجيال القادمة على معرفة بمجريات عصر لم تعش فيه ولاتعرفه..
لايقولن أحد إن الناس لايقرؤون دائما ماله علاقة بهم بحياتهم ومستقبلهم.. وأنهم مشدودون فقط إلى الشبكة العنكبوتية ولكنهم فعلا لايقرؤون ماهو مغترب عنهم.. أو مايخاطبهم من الطابق الألف فوق رؤوسهم..
إنهم معنيون.. بما هو معنيٌ بهم.. فإذا استطعنا أن نضع هذه السير على الشبكة العنكبوتية فسوف يغدو ممكنا أن يقرأه الجميع أيضا وربما يفرغونه على ورق ويصبح كتابا في مكتبة المنزل..