يلحظ أن وسائل الإعلام الإسرائيلية عامة والصحافة على وجه الخصوص قد اتبعت سياسة تحريضية مكشوفة حيال الشعب الفلسطيني عامة والحكومة والقوى الفلسطينية الوطنية خاصة وحرصت كل الحرص على تفجير الأوضاع في قطاع غزة لاسيما بعد فشل جهودها الرامية لإسقاط الحكومة والدفع بإتجاه حرب أهلية فلسطينية ,وكان قطاع غزة في طريقه لآن يتحول إلى جنوب لبنان جديد ,وأكثرت من الحديث في الوقت نفسه عن كميات الأسلحة التي يتم تهريبها إلى القطاع وعن الأنفاق التي تحفر وعن الجيوش التي تبنى وعن...وعن.. ثم علا الضجيج الإسرائيلي الذي ينذر الشعب الفلسطيني بعملية عسكرية واسعة تجتاح خلالها قوات الاحتلال قطاع غزة واحتلاله مجددا , فيما بدأ رموز المؤسسة العسكرية يعزفون على نفس الوتر,لكن الدافع الأساس من وراء كل ذلك , دافع واحد لا غير وما تبقى ليس سوى ذرائع واهية, وهو استعادة كرامة إسرائيل وجيشها التي مرغت بالوحل اللبناني , ومحاولة يائسة لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه في لبنان أن تحققه في غزة حتى لو كان ذلك بارتكاب أبشع المجازر وقتل الأطفال والنساء في وضح النهار وأمام سمع العالم وبصرة ,وتدمير الأخضر واليابس وإلحاق ما يمكن إلحاقه من اكبر الخسائر بالشعب الفلسطيني .
إسرائيل لم تفاجأبصمود الشعب الفلسطيني وتصدي كل أبناء الشعب الفلسطيني للجرائم الوحشية التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق أهالي بيت حانون وخاصة النساء :المعارك في بيت حانون, ولا سيما الحصار الذي ضرب مؤخراً على مسجد النصر في البلدة, ستصبح أسطورة تأسيسية في الرواية الفلسطينية لتاريخ الانتفاضة الثانية. فعلى نحو يشبه المعركة في مخيم اللاجئين في جنين والحصار على كنيسة المهد في بيت لحم, سيستمع في السنوات القادمة الكثير من الأطفال في المناطق أيضا عن عملية الإنقاذ الرائعة: كيف أن عشرات النساء انطلقن نحو المسجد, البسنَ 60 مسلحا اختبؤوا فيه ملابس النساء وخمارهن, وهربنهم من الحصار الإسرائيلي في ظل مسيرة نسائية. وهذه المقاطع الدراماتيكية ستجسد في كتب التاريخ الطريقة التي تجند فيها السكان المدنيون لإنقاذ (حُماتهم). وفي كل بحث في دور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة ستذكر قصة المعركة كنموذج على التجند في صالح الكفاح الوطني( بحسب مراسل صحيفة معاريف في غزة. ولكن المفاجأة ولنقل الطامة الكبرى بالنسبة للحكام الإسرائيليين أن هذه الحملة الشرسة لم يكن نصيبها من الفشل اقل من الهجمات الوحشية الفاشلة التي تعرض لها سكان القرى الجنوبية في لبنان في الحرب العدوانية الأخيرة :عملية (غيوم الخريف) التي انتهت مؤخراً في غزة فشلت في تحقيق أهدافها. جندي إسرائيلي و53 فلسطينيا قُتلوا في العملية (العدد يشمل فقط القتلى في بلدة بيت حانون), فقد زرع الجيش الإسرائيلي دمارا ورعبا في بيت حانون, وأبقى من وراء العملية مئات الجرحى والمنازل المهدمة والبيارات المحروقة وتخريب في جهاز إيصال المياه, ومع ذلك لم يتحقق هدف الجيش وبياناته التي من اجلها كانت العملية, وكذلك فان إطلاق صواريخ القسام استمر(,بحسب افتتاحية هارتس .لكن المثير للسخرية أن الصحافة الإسرائيلية كعادتها انتقلت وبسرعة مذهلة , بعد أن تبين لها عقم هذه العملية وأن القتل والتدمير هو ديددن ودين الآلة العسكرية الجهنمية الإسرائيلية , من التحريض إلى الندب وجلد الذات والتبرير الواهي : بعد أن خسرنا خسارة كبيرة في حرب لبنان الثانية, نواصل الخسارة فقط. خسائر عسكرية وخسائر إنسانية. بعد عملية (غيوم الخريف) قُتل جندي واحد منا, وقُتل أكثر من 80 فلسطينيا, أكثر من 20 منهم مواطنون, وهُدمت مئات البيوت, وحصار مُذل لبلدة فقيرة غاضبة على حد تعبير صحيفة معاريف .فقد بلغ الأمر ببعض الصحفيين الإسرائيليين في أعقاب فشل ما سمي بعملية غيوم الخريف بإبداء مخاوف كبيرة من حصول تداعيات سلبية ستترك أثارها على مستقبل الصراع لصالح الفلسطينيين : بعد حرب كهذه سيدخل العالم في قلب ما يحدث, كما فعل في جنوب لبنان, وسيرسل إلى غزة قوة فرض قانون قوية, شبيهة باليونيفيل. إن إرسال قوة كهذه سيجعل الوضع يستقر, لكنه لن يمنح أي حصانة في مواجهة الهجمات الفلسطينية المستقبلية. إن ما تفعله القوة في لبنان وستفعله في المستقبل في المناطق هو توريط الفلسطينيين دوليا, أو إسرائيل, إذا قرروا الهجوم .
ففي مقال تحليلي للطريقة التي أدار بها كل من أولمرت وبيرتس وحلوتس لما سمي (بعملية غيوم الخريف) وتحت عنوان(عارض لبنان ملموس في غزة) كتب عوزي بنزيمان يقول :حرب الأيام الستة التي خاضها الجيش الإسرائيلي في بيت حانون انتهت أمس بصورة رسمية تاركة وراءها 53 قتيلا فلسطينيا ومئات الجرحى ومقتل جندي إسرائيلي وجرح آخر بصورة بالغة وثالث بجراح طفيفة. بعد ثلاثة اشهر من إعلان قيادة الدولة عن انتصارها في حرب لبنان, ها هي تقوم الآن بالإعلان عن تحقيق أهدافها في قطاع غزة أيضا. ولم يتبق أمام مواطني دولة إسرائيل إلا أن يقبلوا أقوالهم هذه. أولمرت و بيرتس وحلوتس قادوا إسرائيل إلى حرب لبنان الثانية. خلاصة الأمر أن نتائج هذه الحرب مدار انقسام, والمبادرون إليها اعترفوا هم أيضا بإخفاقاتهم وتوقعاتهم المتبددة. مع ذلك بقي الثلاثة في مناصبهم, وهم الذين يقودون العمليات العسكرية في غزة الآن ويبشرون بنجاحاتها. السلوك في الحالتين متشابه: في لبنان (تموز - آب) وفي غزة (تشرين الثاني) لم تتحقق أهداف واضحة يمكن قياس نتائج العملية بناء عليها. في غزة وفي لبنان لم يتم إشراك الجمهور في القرارات, ولم يعلم بأمر العمليتين إلا في وقت لاحق ومتأخر. كما أن العمليات العسكرية على الجبهتين لم تكن مترافقة مع خطة سياسية عليا ورئيسة.وفي السياق ذاته يناقش الكاتب الذرائع والحجج الواهية التي ساقها الزعماء الإسرائيليين للقيام بمثل هذه الوحشية :( أيضا عندما نقبل الافتراض بأن العملية العسكرية الواسعة في القطاع ضرورية في إطار الإدارة الجارية للصراع, وحتى عندما نتبنى الادعاء بأن استخدام القوة الشديدة ضروري بين الحين والآخر من اجل الرد على التصعيد الفلسطيني - يسود الشك بأن عمليات الجيش صحيحة. وعندما نتذكر أنه قد تم في لبنان استخدام قوة هائلة المقاييس مؤدية إلى القضاء على مخزون ضروري وثمين, فليست هناك ثقة بأن نهج العمل في غزة لا يرتكز على سلوك مسرف مشابه. عندما تتكشف لنا في وقت لاحق القرارات الميدانية الانقسامية المتخذة في حرب لبنان, والتي زهقت الأرواح, لا تتبقى لدينا ثقة كافية برجاحة عقل القادة السياسيين, المسؤولين عن الجيش, في مواجهة الفلسطينيين(.
من جهته يناقش زئيف شيف في هارتس نتائج الحملة العسكرية على غزة على قاعدة فشلها الذر يع في تحقيق أي من النتائج السياسية أو الميدانية قائلا :حادثة بيت حانون الصعبة في قطاع غزة جرّت الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مرة أخرى إلى مفترق طرق سيئ على المستويين التكتيكي والاستراتيجي على حد سواء. ... يجب الاعتراف أن الجيش الإسرائيلي قد فشل من الناحية العسكرية في التصدي لصواريخ القسام. هذه الحرب بدأت قبل حرب لبنان الثانية بكثير, وإسرائيل لم تتمكن حتى الآن من إيجاد حل عسكري أو تكنولوجي ملائم لا ينطوي على توسيع الحرب. الجيش الإسرائيلي, ولشدة الأسف, لم يتمكن من توفير الأمن المطلوب لمواطني إسرائيل حتى اليوم. بعد حرب لبنان والفشل في مواجهة الصواريخ قصيرة المدى.وفي هذا الإطار تقيم صحيفة هارتس نتائج هذه الحملة الفاشلة خاصة والسياسات الإسرائيلية حيال قطاع غزة عامة وتقول :لقد علمتنا تجربة الأشهر الأخيرة أن العمليات العسكرية والمقاطعات الاقتصادية تضر بجميع المواطنين, لكنها مع ذلك لا تؤدي إلى أي حلول أو تغييرات, لا سياسية ولا عسكرية. الآن, هذا هو الوقت المناسب لتغيير الاتجاه - وقف إطلاق النار, ووقف المقاطعة الاقتصادية, والبدء بالتحادث مع المندوبين الفلسطينيين المنتخبين. إذا ما استجاب الفلسطينيون لمثل هذه المبادرة الإسرائيلية, فان انتهاء عملية غيوم الخريف قد يتحول أيضا إلى لحظة جيدة في ولادة علاقات جديدة في أعقاب العلاقات الدموية بين الشعبين. يجب عدم تفويت هذه الفرصة وهذه الإمكانية وحول سلوك الإسرائيليين العام الذي تعكسه الصحافة الإسرائيلية حيال المذابح التي ارتكبت خلال الحملة العسكرية الوحشية المذكورة يصف الكاتب جدعون ليفي في هارتس هذا السلوك بقوله: البلدة تشتعل: هناك حمام دماء في بيت حانون والجيش الإسرائيلي يعربد ويقتل 37 شخصا على الأقل خلال أربعة أيام - والرأي العام الإسرائيلي يتثاءب لامباليا. قائد كتيبة قام جنوده بقتل 12 شخصا في يوم واحد: )لقد فزتم ب 12: صفر(, والجنود يبتسمون ابتسامة . هذا هو الحضيض الأخلاقي الذي هبطنا إليه الآن بعد تدهور طويل في منزلق سحيق: حياة الناس أصبحت رخيصة في نظرنا.... لم ينهض أحد في إسرائيل ليسأل من هم القتلى, وهل كانوا جميعا يستحقون الموت, وما هي الجدوى الناجمة عن قتلهم بصورة جماعية. عدا عن الأرقام المفزعة للقتلى النساء والأطفال يتوجب التساؤل أيضا إذا كان كل مسلح في غزة - وهناك عشرات الآلاف منهم - يستحق القتل من دون محاكمة. في اليوم الذي بدأ فيه الجيش الإسرائيلي عمليات الاغتيال قُضي أمر الحساسية لحياة بني البشر, وقُدر لها أن تزول من عندنا تماما(.أما حول سلوك الصحافة الإسرائيلية فيتحدث الكاتب : وكيف تغطي الصحافة الإسرائيلية غيوم الخريف? في معاريف الصادرة يوم الخميس يمكنك أن تجد فقط خبرا صغيرا عابرا حول قتل عشرة فلسطينيين في يوم واحد. أما )يديعوت احرونوت( فلم تتصرف بصورة مغايرة. الصحيفتين الكبريين في البلاد تظهران نهجا مثيرا للفزع والقشعريرة. كما أن قول المحلل العسكري ل )يديعوت احرونوت( اليكس فيشمان بأن أحد أهداف العملية العسكرية هو تدريب القوات استعدادا للعملية الموسعة الكبرى, لم يُثر هنا أي احتجاج هو الآخر. الجيش الإسرائيلي يخرج في )عملية تدريبية( في منطقة مأهولة في قلب بلدة مكتظة بالسكان زارعا القتل والدمار - أوليس هذا تبخيسا مخيفا بحياة بني البشر?.القتل اليومي في غزة لا يحظى بالذكر تقريبا. العمليات الفارغة التي تهدف إلى إعادة ترميم كرامة الجيش الإسرائيلي المفقودة لا تثير أي نقاش حول هدفها ومستواها الأخلاقي وجدواها. لا يتساءلون هنا عن التناسب بين أضرار صواريخ القسام وبين درجات القتل والدمار بما فيها قصف محطة الطاقة التي تخدم مليون ونصف مليون إنسان يعيشون في ظروف الفاقة والمجاعة.
أولمرت لا يريد أن يفهم أن الهزة المطلوبة للمؤسسة العسكرية يجب أن تأتي من الأعلى نحو الأسفل وليس العكس. يتوجب بناء هيكلية جديدة من الأساس, ولكن تغيير البنية القائمة يجب أن يتم من الأعلى إلى الأسفل ) ويضيف ارنس قائلا :( لجنة التحقيق الرسمية وحدها هي التي ستقوم بالتحقيق في إخفاقات رئيس الوزراء ووزير الدفاع والوزراء المسؤولين عن الشؤون الأمنية إبان الحرب, وهذه العملية قد تقود إلى اتخاذ الخطوات المطلوبة لإجراء الإصلاحات في الجيش. من الواضح أن الواجب يتطلب إيجاد بدائل لعدد من كبار الضباط, وأنه ستكون هناك حاجة إلى تعيين رئيس هيئة أركان جديد. ثم يستخلص الوزير ارنس والخبير في الشؤون الأمنية الإسرائيلية ويقول : رئيس الوزراء ووزير الدفاع بيرتس لا يتصرفان من منطلق الإدراك لمسؤوليتهما عن عار الحرب, وطالما لم يستقيلا من منصبيهما, فلا يبدو أن تغييرا عميقا وهاما سيحدث في صفوف الجيش. هذا هو السبب الحقيقي للتباطؤ في إحداث التغييرات المطلوبة لتحسين وضع الجيش وإعداده للمخاطر المحدقة, ونحن قد ندفع ثمنا باهظا لهذا التسويف والمماطلة .... على المسؤولين عن الفشل أن يغادروا. لا يتوجب الوثوق بقيامهم في تنفيذ التغييرات المطلوبة في الجيش. والأكثر من ذلك أنه لا يمكن إيلاؤهم الثقة في كل ما يتعلق بمصير إسرائيل في ظل المخاطر المتربصة بها.