تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


التصحيح بين الانتماء والادعاء

شؤون سياسية
الأربعاء 15/11/2006
د. أحمد الحاج علي

إن أية ظاهرة تاريخية تلازمها على الدوام فكرة الحيوية والضرورة معا, والفكرة هذه تقوم على إعادة ترتيب الأولويات وعلى الأخذ بمنهجية المعايرة والقياس, وفي مثل موضوعنا عن الحركة التصحيحية يرتقي إلى العنوان الأول السؤال الهام: من ذا الذي يكتب عن هذه الحركة?, ومن أية وضعية وموقف يكتب,

وما هي الأولويات التي يعتمدها في الكتابة, ثم هل مازالت الحركة التصحيحية تمتلك مشروعيتها وقوة دفعها في هذا الظرف, ألا يمكن أن نخشى أن نقع في مطب النزعة الاحتفالية البروتوكولية ثم نغادر اللحظة ويعود كل شيء إلى مكمنه الايقاعي المألوف.‏

إذا كانت الحركة التصحيحية حدثا مضى واستنفد غرضه ومبرره فما هي الفائدة من الاحتفال بذكرى ميلادها, أما إذا كان الأمر يتصل بقاعدة دائمة الحضور خصبة الأبعاد, من أهم صفاتها قابلية التجدد وإعادة إنتاج المفاهيم والسلوك والقرارات فإن ذلك هو شرط آخر وهو الذي يجذب كل مبررات العمل والتعامل مع حدث التصحيح نفسه, وفي المحصلة فإن الضروري الملح الآن وفي هذه اللحظة ومواصفاتها وأولوياتها أن نتخلص من فكرتين قاسيتين, الأولى فكرة الأطلال بحيث نقدم أنفسنا للحركة التصحيحية أو نقدمها لأنفسنا ولافرق في ذلك على أنها حدث مضى وانعطافة صارت خلف الزمان وفي ذمة التاريخ ولايجدي التزيين أو رفع درجة الحرارة في التقليل من خطورة هذا التوجه, وهناك على الدوام من تتحكم فيه نزعة الأطلال هذه, سلوكه يبدو على هذا النحو ومستوى وعيه يقف عند هذه النقطة وقراراته في الموقع تأخذ هذه الدائرة المغلقة.‏

والفكرة الثانية التي يجب أن نعزلها أو نعزل أنفسنا عنها لافرق في ذلك هي فكرة الأغلال أي أن نتصور بأن الحركة التصحيحية هي تحول يدخل في نطاق المقدس والمطلق والنهائي, وبالتالي ننفي عنها قابلية التجدد وصفة الحيوية على قاعدة الزمن والظرف التاريخي ولقد حذر الرئيس الراحل حافظ الأسد من ذلك حينما قال: إن الحياة ليست قالبا جامدا نصبه أو نصب عليه والحدث نفسه ليس قفزة خلابة محصورة في مثلث الإنسان والزمان والمكان, إن المسألة هي في كونها فصلا متتابعا متجددا تلك هي الدقة وذلك هو حس المسؤولية الذي يرفض الإغلاق ويرفض المراوحة في المكان ويؤسس لشروط دائمة التجدد تنتج ولا تتآكل تتطور ولا تتكرر.‏

ولعله في اجتماع الفكرتين معا, أعني فكرة الأطلال والأغلال, كانت الدفعة الأولى من التقويمات الفكرية للرئيس بشار الأسد حينما وصف أمانة التصحيح بأنها عبء ثقيل ومسؤولية خطيرة والحفاظ عليها يعني مدها بالجديد وتعديل بعض مصادرها وحذف ما استنفد أغراضه وانتهت صلاحيته, والرئيس الأسد على هذا النحو شعر بالمعاناة مباشرة حينما حدث التناقض السريع بين مكونات عقلية واضحة متكاملة تريد أن تبحر وتحاول التقدم نحو مواصفات العالم الراهن, وبين مواقع راكدة استولدت الركود وبنت مجدها فيه, وهذا ما حدث حينما قال الرئيس بشار الأسد لقد طرحت منهج تفكير ولم أطرح خطة عمل لكن الأمر فهم عند بعض المسؤولين على أنه اجترار ولمسات في الشكل حتى صارت كل السلبيات تعلق على مشجب التطوير والتحديث.‏

إن المسألة بحاجة إلى مراجعة ووقفة مع الذات ولسوف أجتهد مستعيرا هذا المصطلح من الرئيس بشار الأسد نفسه والاجتهاد إيمان ووعي وتقدير ذاتي وهو لا يساوي المطلق بل يخضع لقاعدة الصواب والخطأ, لكن الذي يكفي هو مجرد الاجتهاد, فإن أنتج الصواب كان الأجر مضاعفا ,وإن جافاه الصواب كان الأجر مختصا بحالة الاجتهاد نفسها, وأعود لتحديد تجليات المسألة في فروع ثلاثة:‏

1- فرع الوقائع والضرورات التي أسست للحركة التصحيحية ومنحتها المشروعية وأعطتها بوضوح جواز السفر للتحرك من حال مضطرب متراكب إلى خيار منسجم متوازن, ونعلم جميعا بأن الشروط والعوامل الموضوعية القائمة ليست كافية للتحرك والحركة إذ لابد من الذات الواعية والقائدة والبنية المسؤولة والمغامرة عندها تتم عملية اقتحام الواقع واستخراج مصادره السليمة وإطلاق القواعد الجديدة للحياة الحزبية والوطنية والعملية, ويومها وقبل العام 1970 كان ثمة سؤالان يعتملان في داخل المنتمي والمواطن العادي أحدهما يقول ما جدوى هذه الخيارات والشعارات التي عممتها القيادات الحزبية وأدخلتها كشرط لازم وملازم لكل أنماط الحياة العامة, وعند هذا السؤال اندفعت تيارات التسرع والشكلانية وناسب ذلك أسلوب المناورة والمزايدة في الكلام والقرار وفاعليات الواقع نفسه وكان السؤال الثاني يلح على طرح الأزمة المصيبة, بعد نكسة حزيران في العام 1967 كان هناك من يطرح أفكارا غريبة للغاية منها النظام السياسي قبل الأرض ومنها أن تحرير فلسطين كلها يبدأ من العواصم البعيدة والمواقع القاصية وليست المتداخلة مع جغرافية الأزمة نفسها وهكذا جرت الأحوال في مقادير واندفاعات هذين السؤالين المرين والعقل يلح على الحقيقة ويرى أن ثمة خللا وأي تجاوز له سوف يعني المزيد من المصائب والمديد من الزمن الصامت المسكون بالكلام الفاقع واللون الساطع. من هنا نبعت المقدمات الأولى لإعادة صياغة مسارات الحياة العامة على أسس منطقية وقواعد صالحة للتبني والاستثمار معا ونشأت الحركة التصحيحية في مواصفات ومضامين المسائل المطروحة وكان لابد من التصحيح في الحياة الحزبية أولا بنظامها وقيمها وأفكارها الثقافية وخياراتها التنظيمية. ثم كان لابد من فتح الأفق الوطني لتتحرك العوامل الجديدة في مساحة هذا الأفق حيث لاجدوى من التغاضي عن أولويات الواقع ولاقيمة لحزب مغلق وإن كانت نواياه حسنة وأفعاله طيبة, إن المسألة الآن تتصل بالقدرة على صياغة العمل الحزبي بصورة قوية وفاعلة وبفتح المدى الحيوي أمام حركة الحزب ونضاله وهكذا استقرت حتى هذه اللحظة خيارات الحزب المتحرك بذاته والذي لا يستطيع أن ينجز أو يستمر بدون الحالة الوطنية والحزب والوطن كلاهما ضرورة للآخر ومقياس للآخر وضابط للآخر وأمان للآخر, كان ذلك هو المنهج بأساسه لكن التطبيق في مراحله اللاحقه داخلته سلبيات وتبدلات كثيرة ولقد رأينا مباشرة كيف انصرفت القواعد الجديدة للتصحيح في إعادة بناء الحزب وفي صياغة الحال الوطني وفي إطلاق المشروع السياسي البعثي والسوري معا عبر المحيط القومي وإنجاز التضامن العربي الذي تحقق مرة واحدة فلم يكن من قبل ولا تكرر حدوثه بعد ذلك وكانت حرب تشرين التحريرية أقوى الانجازات وأعظم البراهين , ولا يوجد على مدى التاريخ انجاز سريع حرق المراحل ودفع إيقاع العمل بهذه السرعة والتسارع أكثر من تلك المرحلة الممتدة من عام التصحيح 1970 إلى عام التحرير ,1973 ذلك مؤشر يجب أن يدخل في كل حساباتنا وفي كل اعتباراتنا حتى نمنع الجمود ونستبعد الركود ونتخلص من حالة اليأس والإحباط.‏

2- والفرع الثاني هو الكيفيات والآليات التي سيطرت على مسيرة التصحيح في سنوات ما بعد حرب تشرين, كان الانجاز عميقا وواسعا والخطر يكمن في مشهدين: التغني بالإنجاز والتفرج عليه كمشهد أول والاعتقاد السيكولوجي والسياسي بأننا قد أنجزنا ما فيه الكفاية ولم يتبق لنا إلا أن نحتفل ونقيم الليالي المفرحة, وكان الخلل يقع في نقص شرط المواكبة ما بين القائد والقيادة وما بين السرعة والتسارع وما بين المتحقق والمطلوب وفي ثنايا هذا المشهد الممتد من الرؤية العاجزة ظهرت حالات غير إيجابية وتسللت إلى الواقع بصورة متدرجة أمراض منظورة وغير منظورة كان الأبرز فيها مايلي:‏

الارتهان للمتحقق والترهل المستدام أمام منطق الإضافة والتجديد والشعور عند من يسيطر على الأمور في الدولة والحزب. إن الرصيد الذي كاف أن نصرف منه دون أن نضيف إليه وهكذا بدأت حالة صعبة للغاية جميعنا صرنا نغطي أنفسنا وحتى هذه اللحظة بالقائدين حافظ الأسد وبشار الأسد ولم نفكر بطرح مقولات تبني جسور الانتماء لقيمهما والعمل تحت رايتهما ومازلنا حتى هذه اللحظة نعيش المأزق, قيم كبرى وقائد كبير وناتج عملي وطني لا ينسجم مع ذلك ولا يشفع في هذا الأمر أن نعيش أنفسنا باللحظة السابقة أو الموقع المجاور. إن الشعارات الكبرى تتطلب حضور الكبار في كل مستوى ومنسوب في الحزب والدولة والجبهة والهدف النبيل لابد من التحرك اليه بالوسائل النبيلة القادرة على الإنارة واكتساب ثقة الشعب وانتاج حالة الرضى العام في صفوف الجماهير.‏

الوقوع المتعمد في حالة الاختلاط الضبابية ما بين مفهومي الركود والاستقرار والركود مستنقع يتضاءل ويتآكل ويزحف بالتدريج من الأطراف إلى الجوهر ومن الأفكار إلى التطبيق ومن المواقف إلى التصريحات النارية وأعترف أننا وقعنا في مطب الركود, تكرر الأشخاص وأدمنوا وهناك من بقي في السلطة أو قيادة الحزب لعشرات السنوات وبعضهم دون فاعلية تذكر وبعض آخر اشتغل بالناس حينما لم يعد مطالبا بالاشتغال للناس وظهرت في هذه الحالة النماذج المستعصية والوقائع الممتنعة على النقد والحيثيات التي تتضخم شكلا وتتضاءل مضمونا حتى لقد اعتقد البعض بأنه مقيم في الموقع إلى أبد الآبدين وبالتالي ما جدوى أن تتحدث عن الديمقراطية والتجديد وتخصيب الحياة ضمن واقع محجوز لصالح الركود والتكرار المزمن.‏

وفي منحى آخر استهلت شرائح كثيرة ونماذج أكثر منهجية الوصول إلى أي موقع بعيدا عن مواصفات المسؤولية ومستحقات الموقع المسؤول عنها, لقد تكاثر عدد الذين لا ذاكرة لهم ولا تاريخ وهذا النموذج يتناقض مع جوهر التصحيح لأن التصحيح بأساسه هو إنجاز من جهة ومشاركة في التعديل والتغيير حذفا وإضافة من جهة أخرى والقاعدة تقول: من لا إنجاز له لا تصحيح يملكه ومن لا يصحح لم يكن قط يملك الانجاز, الآن وصلنا إلى حالات بذاتها تحتل فيها مواقع المسؤولية من الذين لا إنجازلهم ولا تصحيح يجذبهم, وفي ضرورات هذه الظاهرة حدثت استطالات غريبة منها تغيب الرموز وتضييع منهج التقويم للفرد والموقع والتنظيم حتى صار الشرط الأجمل والأصلح هو أن ( هذا الانسان لاشيء عليه) أي إنه بنية ساكنة لاتعمل ولا تخطئ وتحول الامر إلى سلاح خطر يهدد الابداع والمبادرة وحرية إبداء الرأي ومصداقية التأشير على الخلل ولنتصور الآن هذه المفارقة, وطن متحرك منسجم مع إيقاع حركة العالم, ومسؤول ساكن , وآخر متربص, وثالث ينتظر دوره مادام من يدعمه ثابتا في مكانه حائزا على كل شروط الاستمرار والديمومة المتعبة.‏

التصحيح الذي بدأ لما ينته ومازالت مقوماته ومقدماته قائمة ضاغطة والمسيرة العامة بخير ولأنها كذلك أظهرت كل العيوب وظهرت المثالب والأخطاء على أنها خطايا إن الحركات التاريخية تقاس بمدى انجازاتها وتحولاتها ويستوجب المنطق ذكر العثرات والسقطات والعيوب والفرق كبير ونوعي بين من يرفض الواقع من موقف المتفرج والمتشفي والشامت والمتربص وبين من نذر نفسه لوطنه وبعثه فكانت الانحرافات ومازالت نارا تكويه وأرقا وهما وفي ذلك تستوطن أروع حقائق التصحيح.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية