قال أحدهم أنا مؤمن أن الشهادة لا تصنع مثقفاً. وفي هذا الزمن لا يجوز الحديث عن أقل من الشهادة الجامعية. ذلك أن الثقافة شيء آخر, غير ما يطلع عليه الإنسان في البرامج الدراسية. وهي التي يمكن أن تكون أساساً جيداً تبنى عليه الثقافة. إذا أخذنا بتعريف أجدادنا القدامى ولاسيما ابن خلدون الذي قال: إن الأدب هو الأخذ من كل علم بطرف - وهذا ما يشبه أن يكون تعريفاً للثقافة من بعض الوجوه- فإن الإجازة الجامعية لا تعني في آخر تحليل سوى فتح باب معين من أبواب المعرفة والعلم, وهي ليست معرفة تامة- ولا يمكن أن تكون كذلك- كالجغرافيا والفلسفة والتاريخ والفيزياء والكيمياء والطب.. إلخ.
انبرى آخر للكلام, دون أن يخالف المتحدث, بل سار في اتجاهه نفسه إذ قال: -يوم دخلت جامعة دمشق في الخمسينيات- كان اسمها: الجامعة السورية -كانت المناهج الدراسية مختلفة تماماً, وكأن الهيئة التي وضعت تلك المناهج كانت تريد أن تأخذ برأي ابن خلدون, ولهذا جعلت للسنة الأولى في كلية الآداب برنامجاً شاملاً يأخذ الطالب فيه من كل علم بطرف حقاً. وكانت هذه السنة تدعى سنة أو شهادة الثقافة العامة- حسب الطريقة الفرنسية بتقسيم سنوات الدراسة الجامعية إلى شهادات أو: سرتفيكات- وتابع الرجل قائلاً: أنا اعترف أنها كانت دراسة صعبة بالفعل, وكان ما يزيدها صعوبة, أن الطالب بعد أن ينجح في الامتحانات التحريرية, يخضع لامتحانات شفهية أخرى, في كل مادة نجح فيها تحريرياً, ماذا أقول? في الواقع كان الطالب يتخرج من الجامعة مختمراً ثقافياً, بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
كانت ثمة سيدة بين الحضور, ولها رأي آخر مختلف, فهي عدت هذه البرامج منطوية على كثير من المبالغة, فلماذا يدرس الطالب الذي يريد أن يتخصص في الجغرافيا, مواد أخرى, في تلك السنة الأولى, كالفلسفة وعلم الاجتماع واللغة العربية وقواعدها في النحو والصرف.. إلخ.. يكفيه أن يدرس الاختصاص الذي يريده وأن يتعمق فيه, إن استطاع.
وقالت: أليس الدخول في امتحان شفوي, في كل مادة بعد النجاح فيها تحريرياً, تصعيباً وتعسيراً إلى أقصى الحدود, وهل الامتحان سوى سبر لمعلومات الطالب, وليس سباق حواجز?
تذكرت أنا بدوري, ما كان يحدث أحياناً, عندما ينجح الطالب في الامتحانات التحريرية جميعاً ثم يسقط سقوطاً نهائياً في إحدى مواد الفحوص الشفوية, كاللغة العربية. كان يكفي أن يقرر أستاذ واحد ترسيب هذا الطالب أو ذاك, حتى يظل يرسب إلى ما لا نهاية.. لهذا السبب أو ذاك. وعلى سبيل المثال فإن أحد الأساتذة الراحلين, كان يكن كراهية خاصة للتلميذات اللواتي يضعن الماكياج على وجوههن, ولا يرتدين الثياب على النحو الذي يرضى به هذا الأستاذ.
..لذا, فلم يكن ثمة أعسر من نجاح هؤلاء الصبايا عنده, وأذكر أنه جعل إحداهن ترسب في شهادة الثقافة العامة ثلاث سنوات.
وصارحها أخيراً قائلاً: ما دمت أنا هنا.. فلا نجاح أمامك, فكان أن انتقلت إلى كلية الحقوق.. وفعل مثلها كثيرون.
وانضم إلى صف السيدة آخر فرأى أن هذا هو اتجاه المجتمع الأميركي الحديث والثقافة الأميركية في القرن العشرين, وقد صنع هذا أجيالاً من الباحثين التخصصيين.
وجاء الجواب سريعاً: ولكن أحداً لا يستطيع أن يصف هؤلاء بأنهم مثقفون فهم الثمرة للغرسة التي زرعها في مستهل القرن الماضي, الفيلسوف الأميركي وليم جيمس حين ألقى بين عامي 1906 و 1907 سلسلة محاضرات, نشرت فيما بعد في كتاب عنوانه (البراغماتية - اسم جديد لطرائق قديمة في التفكير Pragmatism, anew name for some old ways of thhnking).
ومؤداها بإيجاز شديد للغاية: الحكم على الأفكار بنتائجها العملية, ومن ثم فإن الأفكار الصادقة هي النافعة.. فالفكرة (نافعة لأنها حقيقية).. وهي حقيقية لأنها نافعة إن صفة الصدق أو الحقيقة التي ننسبها للفكرة نفسها, ننسبها إليها حين نبدأ بها عملية التحقق, وصفة النفع تدل على الفكرة حين تؤدي وظيفتها في التجربة وليس ثمة قيمة لفكرة أو نظرية إلا إذا تيسر لنا تطبيقها تطبيقاً مباشراً على الوقائع التي نلاحظها.
لست بالطبع في معرض حديث مفصل عن هذه الفلسفة التي ترجمت باسم (الذرائعية) لكن لابد من كلمة ضرورية في هذا المجال, رددها منتقدوها منذ سنوات بعيدة, فكيف نحكم على الأفكار السامية التي تتخطى كل تجربة بموازين مستمدة من التجربة?! وكيف نسوغ لأنفسنا إخضاعها لتصنيفات عملية وهي أسمى من كل نظرة فردية نفعية, وأبعد عن كل نزوة بشرية?!
كان طبيعياً أن تلقى (الذرائعية) معارضة شديدة من قبل أكثر من شخص بين المتحاورين, من ذلك مثلاً ما قيل من أنها هي التي كانت تقف وراء موجات الاستهلاك, في كل مجال, في الثلث الأخير من القرن العشرين, حتى انتهى الأمر بنا إلى ما تمكن تسميته (ثقافة السندويش) ونكاد نشهد غياباً كاملاً للمتع العقلية, في مواجهة طغيان المتع الحسية الخالصة.. بل إن هناك متعاً يمكن أن نصنفها بأنها دون الحسية..
ومع هذا التراجع المذهل لما هو عقلي وروحي وبعيد عن المنفعة, تغيب عناصر كثيرة, هي من جوهر الروح الإنساني, ويغيب أيضاً كل ما هو مجاني, في العلاقة والتعامل بين بني البشر, كأن في الإمكان أن يعيش الإنسان بالخبز وحده!
فوق هذا وذاك, فربما أصبح مشروعاً الحديث عن أمية ثقافية, تلاحظ في المجتمعات المتقدمة (الذرائعية) ولا سيما المجتمع الأميركي, إننا نتابع ونقرأ نتائج الاستطلاعات والاستقصاءات, حول موقف الأفراد في الولايات المتحدة الأميركية من المسائل الثقافية, وهي بالتأكيد مخجلة مخزية, لأنها لا تكشف عن الأمية الثقافية فحسب.. بل تشير بما لا يقبل الشك إلى جهالات مخيفة, في مسائل بسيطة في التاريخ والجغرافيا.. وحتى اللغة الانكليزية, التي هي لغتهم!.
وعادت تلك السيدة, لتطرح فكرة ساهمت إلى حد بعيد في إنهاء المناقشة والوصول إلى (التركيب) اللازم كما يقال في الفلسفة (Synthesis).
قالت: حسناً يعجبني هذا الإنسان المثقف الآخذ من كل علم بطرف, ولكن طبيعة العصر الذي نعيشه لم تعد تسمح بظهور هذا الضرب من المثقفين, وكيف يستطيع الإنسان أن يحيط بأطراف هذه الدوائر المعرفية التي ما زالت تتسع وتتسع, وتقذف المطابع هنا وهناك, كل يوم آلاف الكتب في مختلف الموضوعات, حتى العبقريات متعددة الجوانب كالموشور, أمثال أرسطو والفارابي وابن سينا, كانت استثناء في زمنها ولم تكن القاعدة.
وقالت: ليس ضرورياً ولا ممكنا في الأصل, أن يحيط الإنسان بكل ما تصدره المطابع وتنشره وسائل الإعلام, وهذا أيضاً عمل غير إنساني, كما أن كثيراً مما يذاع في بطون الكتب وثنايا الإعلام, يبدو حيناً تنويعاً على لحن واحد, يهم المختصين, أو يتراءى حيناً آخر نافلاً, وقد يكون غير ضروري إلا لفئة معينة من الناس, أو لتزجية الوقت.. كما هو الحال في إقدام إحدى دور النشرعلى إصدار مذكرات كازانوفا -العاشق المغامر التاريخي المشهور- في أربعة عشر جزءاً!!
بلى في الإمكان الوصول إلى حل وسط, في هذه المسألة لكنه ليس سهلاً, على كل حال, في هذا الزمن الصعب, إذ يحتاج المرء إلى كثير من العمل كي يحصل على قليل من المال للعيش أولاً, فما الذي يبقى لديه من وقت للثقافة? أما قال الإغريق: ينبغي أن نأكل قبل أن نتفلسف.