تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أمريكا ووباء الهيمنة

آراء
الأربعاء 15/11/2006
أ. د. حسين جمعة*

لم يعد يخفى على كل ذي لب أن الإدارة الأمريكية اليمينية قد أصرت على احتلال العراق للسيطرة على النفط قبل أي شيء آخر.وهذا ما أقر به بوش في خطابه الذي ألقاه في مؤتمره الصحفي الأخير,قبل الانتخابات الأمريكية بأسبوع ومنه قوله:

( إذا ما فشلنا في العراق انتصر المتطرفون وسيطروا على النفط العراقي,ومن ثم غيروا الحكومات الأخرى وسيطروا على نفط المنطقة وتحكموا بالولايات المتحدة والغرب). ولهذا أنجزت حربها عليه بحجج واهية خدعت بها بعض الدول مرة بحجة محاربة الإرهاب والاستبداد ومرة أخرى بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي تهدد أمريكا ودول الجوار-كما زعمت- وطفقت تنفذ أجندتها الموضوعة لذلك.‏

وها قد مضى على احتلال أمريكا للعراق ما يقارب أربع سنوات منذ (9/4/2003 م)ولا تزال إدارة بوش مستمرة في غيها,إذ شدد نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) مساء يوم الجمعة (3/11/2006م) على استمرار سياستها في العراق أيا كانت نتائج الانتخابات وتأثيرها فقال:( لكن الرئيس قال بوضوح إن هدفه هو تحقيق النصر في العراق).ومن ثم نتساءل في ضوء الأحداث الجارية في المنطقة عامة وفي العراق خاصة: ما النتيجة التي آلت إليها المنطقة برمتها? لقد ثبت للعالم كله أن إدارة بوش قامت بحرب قذرة وقتل جماعي وتدمير همجي لكل صنوف الحياة للأرض والإنسان والتراث والثقافة و..‏

فلما أرادت هذه الإدارة أن تسيطر على قلب آسيا وإن انطلقت تطبق نموذج (الشرق الأوسط الكبير) كان انطلاقها من أفغانستان,ولما كان هدفها السيطرة على النفط وتطبيق مشروع(الشرق الأوسط الجديد) انطلقت من العراق.إنه شرق أوسط مجزأ ومدمى بالتمزق العرقي والطائفي,وبالقتل الهمجي الوحشي يلبي مصالح أمريكا بمثل ما يلبي الأجندة الصهيونية.‏

ووفق هذه الرؤية أخذت تلك الإدارة تؤسس العراق طائفيا وعرقيا ومذهبيا,وربما نجحت في تحقيقه ولاسيما حين صممت دستورا صوت عليه تحت ظل حراب جنودها.ثم ازدادت اللعبة خطرا فأشعلت حربا طائفية ومذهبية فيه دون أن تتعظ بمقتل ما يزيد على (2600) شخص من قواتها,ودون أن يرف لها جفن للمجازر الجماعية التي ترتكبها بحق العراقيين الأبرياء,إذ زاد عدد القتلى على (2,5%) من عدد الشعب العراقي,فضلا عن مئات الآلاف من الجرحى والمشوهين.لقد غرها بطش قوتها الفائضة المالكة لكل الأدوات العسكرية والتقنية بعد انفرادها بالسيطرة على العالم كقوة عظمى.وساعدها على ذلك كله تراجع الدور الروسي في المنطقة بعد سقوط ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي,وعدم نضج الرؤية الصينية لكل ما يجري في هذه المنطقة حتى الآن,إذ لم تتخذ لنفسها طريقا واضحة فيها,ثم جرت الموقف الفرنسي بقيادة شيراك إليها,حتى شرع يستظل بظل سياسة الإدارة الأمريكية اليمينية في المرحلة الأخيرة,ولا سيما إبان العدوان الصهيوني على لبنان/المقاومة,ما جعله يتنكر للموقف الفرنسي المقبول ضد احتلال الجيش الأمريكي للعراق.‏

وفضلا عن ذلك استغلت الإدارة الأمريكية اليمينية ضعف الدول العربية والمواقف المترتبة لعدد منها فأمعنت في تطبيق سياسة المصالح من طرف واحد,ولم تبال بكرامة الشعب العربي,ثم طفقت تلعب على التشكيلات الإثنية والثنائية عرقيا ومذهبيا لتبث سمومها في عدد من الدول العربية بعد العراق كالسودان وسورية ولبنان ومصر ساعية الى زعزعة الاستقرار فيها,وهادفة الى القضاء على ثقافة العيش المشترك بين أبنائها منذ آلاف السنين,مستفيدة من عملائها المأجورين.‏

لهذا أخذت تفتت وحدتهم وتمضي في تنفيذ مخططاتها وفق مفهوم الهيمنة على قلب العالم باعتباره واسطة العقد فيه,والمالك لخيرات كثيرة,وهي في ذلك كله تجمع بين خدمة مصالحها وتحقيقا لما رسمته الأجندة الصهيونية,باعتبار الصهيونية طليعة للنظام الرأسمالي الغربي المعادي لحرية الشعوب وكرامتها.‏

ومن هنا فإن كثيرا من المثقفين والساسة تفاءل بنتائج الانتخابات الأمريكية في (7/11/2006 م) إذ سيطر الحزب الديمقراطي على مجلسي الشيوخ والنواب.‏

ولعل الرؤية الموضوعية والمنطقية للسياسة الأمريكية لا تختلف بين حزب جمهوري وحزب ديمقراطي مهما يقال عن فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة ومهما يكن الفرح بسقوط الجمهوريين عظيما,فالإدانة الموجهة من قبل الديمقراطيين لبوش وإدارته إنما انبثقت من أن حربهما على العراق قد أضرت بالمصالح الأمريكية,علاوة على مقتل جنودها.‏

فلا الشرق الأوسط قد سار في مساره المرسوم له,ولا طرق النفط باتت آمنة,ولا الأنظمة العربية الوطنية قد سقطت,على تراجع أدوار بعض منها,ولا قوات الاحتلال الأمريكي قد نجحت في منع المقاومة العراقية من الوصول الى المنطقة الخضراء,ومن ثم لم تنجح أمريكا في تكوين قوة أمنية عراقية لحماية الاحتلال وأعوانه,علما أن الديمقراطيين حثوا الرئيس بوش على التوصل الى تسوية سياسية مع العراقيين لنزع سلاح الميليشيات وعقد مؤتمر دولي للمانحين لإعادة بناء العراق وفق تصور أمريكي جديد يغاير تصور بوش وإدارته,ولا سيما أن المقاومة العراقية طورت أدواتها وطرائقها في القتال,وزادت ضغطها على قوات الاحتلال على الرغم من قيام هذه القوات بمجازر وحشية اتهمت بها المقاومة العراقية.‏

إذن الهيمنة الأمريكية على المنطقة باتت مهددة في وجودها ولا بد من المراجعة الداخلية سياسيا وعسكريا,من أجل خدمة المصالح الأمريكية في الخارج,سواء أكان ذلك بمغادرة العراق وفقا لجدول زمني بعد إنفاذ مهمة تدريب قوات الأمن العراقي أم وفقا لتقسيم العراق الى كيانات مصطنعة.من هنا يأتي فهمنا للانقلاب السياسي للشعب الأمريكي على إدارة بوش اليمينية المحافظة التي جعلت أمريكا تخسر كثيرا من نفوذها في المنطقة العربية والعديد من دول العالم.وهذا ما اعترف به (ريتشارد هاس) أحد المتخصصين بالسياسة الأمريكية,بل ذهب أكثر من ذلك الى أن العصر الأمريكي في الشرق الأوسط قد ولّى.‏

فما جرى في أمريكا إنما هو انقلاب على الممارسة السياسية الحمقاء لإدارة بوش في العراق باعتراف الساسة الأمريكيين أنفسهم بدءا من الجنرال ويسلي كلارك المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة وانتهاء بالسيدة نانسي بيلوس الرئيسة الجديدة لمجلس النواب الأمريكي التي قالت عن حرب بوش على العراق:(لا تستطيع الاستمرار في هذا النهج الكارثي,ولذلك نقول للرئيس: نحن بحاحة الى توجه جديد في العراق).‏

فالانقلاب السياسي الأمريكي داخليا لم يكن غرضه انتصارا للحرية والديمقراطية في منطقتنا وإنما كان إدانة لسياسة إدارة بوش وزمرته المحافظة ,دون أن ننسى أن بعض صقور المحافظين الذين خططوا للحرب على العراق قد أعلنوا براءتهم من أخطاء بوش ورامسفيلد وتردّي أدائهما فقد قال (كينيث أدلمان) عضو اللجنة الاستشارية للسياسة الدفاعية الخاصة بوزارة الدفاع الأمريكية لمجلة (فانيتي فير):(تبين أنهما من أقل الفرق كفاءة في فترة ما بعد الحرب.ولا يقتصر الأمر على ارتكاب كل منهما أخطاء هائلة بصورة منفردة,ولكنهما يعملان معا بصورة قاتلة...وفاشلة.) إذن,إنها سياسة أدت الى هزيمة الهيمنة الأمريكية على المنطقة,ومن ثم سببت هزيمة بقية المشاريع الغربية الأخرى وأضرّت بمصالحها,وأججت مشاعر العداء لها في المنطقة والعالم,وبعثت روح النهوض الوطني الشعبي الذي يطالب بالمقاومة المسلحة ضد الوجود الأمريكي والصهيوني.‏

ولم يكن النهوض الشعبي إثر احتلال العراق,وإبان العدوان الصهيوني على لبنان إلا تأكيدا له.وقد أثبت هذا النهوض كفاءة عالية,ولا سيما حين كشف المخططات المشبوهة التي تحاك للمنطقة,وفضح المتخاذلين الذين عجزوا عن مواجهة العدوان الغاصب.‏

ونرى أن ما انتهت إليه الانتخابات الأمريكية ينبغي أن تجعل السياسة الأمريكية الخارجية أكثر اعتدالا ,وأن يدرك أبناء الشعب الأمريكي قبل أبناء البشرية أن إدارة بوش كانت المحطة الأسوأ في حياة العالم والعار الفاضح في جبين أمريكا التي تصرخ كل لحظة بأنها زعيمة التحرر والديمقراطية.فتلك الإدارة سلبت كرامة عدد من الشعوب,وأقامت السجون الحديدة التي أكلت أجساد البشر في( أبو غريب وغوانتانامو) وغيرهما ووقفت جنبا الى جنب مع أكلة لحوم البشر.وإذا كنا ندرك ذلك كله فعلينا أن نتبنى مفاهيم ثقافة المقاومة قولا وفعلا والارتقاء بها في إطار من التعاون والتوحد لتحقيق حريتنا وسيادتنا على أرضنا,فأي إدارة أمريكية جمهورية أم ديمقراطية إنما تحرص على تحقيق مصالحها,وأي خلاف بينها إنما يكمن في إدارة الصراع لتحقيق تلك المصالح.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية