|
رحلوا.. وما رحلوا.. الثلاثاء 7-1-2014 وإذا كانت النزاهة تقتضي في حال انهيار صداقة، حفظ الأسرار التي ما كان للمرء أن يعرفها لو لم يكن صديقاً، فإن النزاهة ذاتها تفرض، في كل الأحوال، الإضاءة على خصال أتاحت الصداقة معرفتها، وهو ما أعتقد أنه يمنح الكلمات في حال الرثاء أهمية معرفية تتخطى إطار المكرور المألوف، فلا تظل أسيرة العواطف الدافئة مهما بلغ صدقها.. التداعيات السابقة لازمتني منذ قبيل نهاية العام الماضي مع رحيل أربع قامات كان لكل منهم حضور خاص لدي، كما لدى عدد كبير من عارفيهم ومحبيهم، أولهم المربي والإعلامي والأديب ياسر المالح، الذي لن تستطيع الأيام أن تمحو من ذاكرتي الجلسات الصباحية التي كانت تمتد لساعات مع كأس الشاي الأخضر، لما كانت هذه الجلسات تتضمنه من معلومات ثرية في الأدب والتاريخ والفنون، وآراء تحاور بعقل منفتح قضايا الحياة والفكر.. كان الراحل الكبير، كما الثلاثة الآخرون، قد سبق تعرفي عليه معرفتي به، فقد ارتبط بذاكرة عدة أجيال بالبرنامج الشهير (افتح يا سمسم) الذي سعى ببراعة لتحبيب الناشئة باللغة العربية، وتوثيق معرفتهم بها، لكن قصر الحديث عن هذا الجانب في ياسر المالح فيه ظلم كبير، ويكفي القول إنه جزء أصيل ورحب من الحياة الثقافية – الاجتماعية لعاصمة سورية.. جزء لا يمكن نسيانه، ولا تعويضه.. القامة الثانية هو الصحفي والأديب يوسف المحمود، وقد عرفت اسمه مثل آلاف القراء من خلال زاويته اليومية في صحيفة «الثورة» التي كانت تتطرق إلى أمور شتى بلغة سلسة بسيطة محببة، اكتشفت حين بدأت العمل في الصحيفة أنها تشبهه إلى حد كبير.. لكن العم يوسف فاجأنا بعد سنوات حين نشر واحدة من أجمل الروايات في الأدب العربي، وقد فشلت كل محاولاتنا للاحتفال به بمناسبة هذا الحدث، ثم وافق بعد جهد كبير على تلخيص رغبتنا في حلقة من برنامج (كاتب وموقف) قدم خلالها صديقنا الدكتور نوفل نيوف دراسة غنية عن الرواية الثرية.. ثالث القامات هو الأستاذ والإعلامي توفيق البجيرمي، ولن آتي بجديد إذا تحدثت عن ارتباط اسمه بعبارته الشهيرة (فتأمل يا رعاك الله) التي كان يختم بها حلقات برنامجه التلفزيوني واسع الشعبية (طرائف من العالم) وقد كان قسم كبير من نجاحه يعود إلى طريقته الساحرة في القراءة التي تمنح اللغة العربية رونقاً استثنائياً، وكان تعارفي الشخصي بأستاذ اللغة الإنكليزية البارع عام 2003في دورة خاصة أقامها مركز التدريب الإذاعي والتلفزيوني لمديري القنوات الفضائية، وكان يومذاك يقوم بمهمة الترجمة الفورية للخبير الانكليزي المحاضر، فكانت ساعات المحاضرات،كما فترات الاستراحة، متعة لا توصف.. وأساساً لمعرفة عميقة بالرجل.. وكم أسفت لفقدان مسلسل تلفزيوني رائع أدى فيه دور (الجاحظ) مستثمراً ببراعة كل إمكانياته الأدبية والمعرفية والإنسانية.. أما القامة الرابعة فهو من وصف بالروسي السوري. إنه المايسترو فيكتور بابينكو أستاذ الموسيقا الذي أمضى عشرين سنة في التدريس بالمعهد العالي للموسيقا بدمشق خرّج خلالها عشرات الموسيقيين، وأسس فرقة كورال المعهد التي لقيت نجاحاً كبيراً وترحيباً واسعاً أينما قدمت حفلاتها. فيكتور بابينكو استطاع بإخلاصه لعمله وجديته وصرامته أن يترك أثراً في طلابه تحدث به بعضهم بعد رحيله، أما حضوره الشخصي الإنساني اللطيف، ولغته العربية ذات اللكنة الروسية، فهما ما ساهما في إيجاد مكانته المحببة لدى كل من يعرفه.. هم أربع قامات رحلوا مع رحيل العام الماضي، وكأنهم أخذوا معهم بعضاً من روحنا.. لكنهم تركوا في المقابل ذكرى عطائهم الإنساني.. www.facebook.com/saad.alkassem
|