البعض أشار همزا ولمزا وغمزا إلى البذخ المادي لإقامة تلك الفعاليات ناسيا أو متناسيا أن الثقافة كانت حكرا على الطبقة الارستقراطية في حقب وأزمنة متعددة، اليوم وبعد انتصار المجتمع الاشتراكي على الارستقراطية والرأسمالية العالمية أصبحت المشاريع الثقافية بمكوناتها اللوجستية والإبداعية حاجة إنسانية وضرورة للقضاء على الجهل والتخلف ولبناء مجتمع سليم معافى لايعيبه الفقر وإنما يُعاب على مواطنيه الجهل وصنائعه التي تدمر كل حضارة..
اعتدنا أن يقتصر البذخ على وسائل العيش والترفيه، واعتاد الناس على أهمية اقتناء السيارة وغيرها قبل امتلاك مصادر وأدوات المعرفة والعلم والفكر والثقافة، رغم أن شواهد الحضارة تدلل في كل حقبة زمنية على شواهد الإرث الثقافي لنشوء تلك الحضارات والمبدعين والعلماء والمفكرين الذين نتوارث علومهم جيلا بعد جيل..
حلب عاصمة الثقافة السورية تستحق أكثر من البذخ لجمالها وروعتها وسحرها اللامتناهي وحكاياتها التاريخية التي تجسدت في عقول وقلوب زوارها وأهلها ومعالمها التاريخية التي جعلت منها شاهدا حيا على أصالتها وعراقتها على مر العصور..
حلب بما فيها من مبان تاريخية أثرية وذاكرة بصرية شهدت على ولادة التاريخ وتسجيلها على لائحة التراث العالمي يضاهي تسجيلها في أمات كتب الأدب والشعر والفلسفة والتاريخ والموسيقا والفكر واللغة للفارابي وابن سينا وابن خالويه وأبو الفتح بن جني والمتنبي وأبو فراس الحمداني والصنوبري والوأواء الدمشقي والسلامي والنامي وأبو فرج الأصفهاني وغيرهم كثر..
حتى شكسبير في مسرحية (عطيل) ذكر حلب وأبدى انتقاده لحكم العثمانيين وحضورهم في حلب (دموعا سراعا كما تدار أشجار العرب صمغها الشافي هذا دونوه وقولوا أيضا إنني ذات مرة في حلب.. حيث هوى تركي شرير معمم) أما أشهر وصف لحلب كان للمتنبي عندما قال:
لا أقمنا على مكان وإن طاب.. ولا يمكن المكان الرحيل كلما رحبت بنا الروض قلنا..
حلب قصدنا وأنت السبيل..
وأبو فراس الحمداني والبحتري والمعري كلهم تغنوا بحلب، وأخذت نصيبا كبيرا في الشعر الحديث فتغنى بها كل من الأخطل الصغير ونزار قباني وخليل مطران وجبران خليل جبران ومحمود درويش وغيرهم كثر, النقاء الفني والأدبي يعكس الصورة الإنسانية البهية للمدن عبر التاريخ، فلا مكان للاستسلام للأزمات والتناقضات التي تفرزها الحضارة الصناعية الحديثة لأن البقاء للضمير الإنساني ومايتفاعل فيه من جهود كبيرة وصادقة للتحرر والبناء في مدن الحضارة والبقاء..