لولا وقوف أطراف إقليمية ودولية إلى جانبهم والعمل على رعايتهم وإمدادهم بالمال والسلاح وتكريس جهود كبيرة للعديد من أجهزة الاستخبارات الخليجية والإقليمية والدولية لرعاية الفكر التكفيري وحملته، وتأمين تجميعهم من كل أصقاع الكون والزج بهم حيث تتجه ألسنة اللهب الذي يجتاح المنطقة، ومعلوم أيضاً أنه ما كان لتلك الأطراف الخليجية والإقليمية أن تستمر في رعاية الإرهاب الموصوف لولا الضوء الأخضر الأمريكي الصادر من مفاصل صنع القرار الأمريكي، وفي ضوء هذا يمكن فهم امتناع المسؤولين الأمريكيين عن إدانة المجازر التي ترتكبها العصابات الوهابية التكفيرية في سورية، وفي الوقت نفسه منع مجلس الأمن من إصدار حتى بيان إدانة لأكثر المجازر الإرهابية التي ارتكبت ولا تزال بحق المواطنين السوريين مدنيين وعسكريين وبحق الدولة السورية ومؤسساتها المختلفة وبناها التحتية ومنشآتها الاقتصادية، ومن حق المتابع العادي أن يتساءل :هل يعقل أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية التي تتنصت على المكالمات الشخصية لرؤساء دول كبرى لم تكن تعرف أن داعش وبقية الجسد الإرهابي المسلح في الداخل السوري لا يرتبط بالقاعدة؟ وهل المواطن السوري والدولة السورية مطالبان بدفع فاتورة باهظة من الدماء البريئة حتى تقتنع إدارة أوباما وتصنف « داعش» كمنظمة إرهابية تابعة للقاعدة؟ وماذا عما سموه «الجبهة الإسلامية» التي أضافت فصلاً جديداً لإرهاب القاعدة عبر حرق الأبرياء بالأفران؟ وكيف يمكن لعاقل أن يقتنع بأن إدارة أوباما جادة في مكافحة الإرهاب في الوقت الذي يعلن فيه المسؤولون الأمريكيون عن رغبتهم بلقاء أولئك القتلة ويصفونهم بالمسلحين المعتدلين؟ فمتى كان خريجو السجون وأصحاب السوابق المحكومون بالإعدام أو بعشرات السنوات معتدلين، وبخاصة في ظل إخراجهم من السجون السعودية وغيرها شريطة التوجه للقتال في سورية؟ وكيف يمكن لحملة الجنسية الشيشانية أو الأفغانية أو الأوروبية الغربية أو الخليجية أو التركية أو غيرها ممن أتوا لتعميم ثقافة السواطير وقطع الرؤوس والاغتصاب أن يكونوا شركاء لواشنطن التي تدعي مكافحة الإرهاب وموافقتها على الحل السياسي؟ وهل يكون الحل السياسي بالتعاون مع هؤلاء أم بالتعاون الدولي لمحاربة إرهابهم وجرائمهم التي فاقت كل وصف؟
لا أظن أن الإجابة على هذه الاستفهامات الإنكارية تتطلب متخصصين بعلم السياسة فالحقيقة واضحة وضوح الشمس، ولم يعد بإمكان من مارسوا التضليل الاستراتيجي الاستمرار بالضحك على عقول الناس والمتاجرة بدماء أبناء المنطقة وسفكها بمباركة بعض المحسوبين عليها وبأموالهم وعائدات نفطهم التي تُحْرَمُ منها الشعوب خدمة للأجندة الصهيونية، ومن السذاجة التفكير بأن واشنطن تخلت عن أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، وهي تلملم أوراقها للخروج منها نحو فضاءات جديدة، فالمتابع للسياسة الأمريكية يدرك أن واشنطن لا تعطي أمر العمليات بالبدء بتنفيذ أي من الأهداف الاستراتيجية إلا بعد أن تكون أخذت بالحسبان مختلف السيناريوهات الممكنة، وعندما يفشل أحد السيناريوهات تلوح بالآخر الذي يكون جاهزاً، وقد أصبح واضحاً أن موضوع أَخْذِ سورية من الخارج غير ممكن لأن بيئةً استراتيجيةً دوليةً تشكلت، وهذه البيئة غير مناسبة لسيناريو التدخل الخارجي، فضلاً عن أن تداعيات ذلك تفوق قدرة جميع الأطراف على التحمل، والأمر ذاته ينسحب على المشروع العسكري من الداخل عبر العصابات الإرهابية على اختلاف مسمياتها وتعدد مرجعياتها، وما أنجزه الجيش العربي السوري على امتداد ثلاثة وثلاثين شهراً أصاب مشروع الهيمنة في مقتل، ووجدت واشنطن نفسها مرغمة على التعامل مع الواقعية الميدانية التي فرضها أداء الجيش العربي السوري، وما تمخض عنها من واقعية سياسية لا يمكن تجاوزها، وأمام هذه اللوحة الجديدة التي أفرزتها ميادين المواجهة في الحرب المفتوحة على سورية أصبحت واشنطن مضطرة لتغيير السيناريو والتلويح بغيره، وهذا ما نراه عبر القبول بتحديد موعد جنيف 2، ولكن ما المعطيات والإفرازات التي ترافقت مع ذلك، وبخاصة بعد الفشل الذريع لمعركة ما سموه فك الطوق عن الغوطة، بإشراف مباشر من الإرهابي الأكبر بندر بن سلطان وما أعقب ذلك من تقدم للجيش وتطهير العديد من قرى الغوطة الشرقية بعد تطهير قارة ودير عطية والنبك؟ باختصار شديد لم تعد عربدات المسؤولين الوهابيين وتبجحهم بالإصرار على دعم الإرهاب المُصَدَّر إلى سورية قادرة على إنجاز أي تغيير ميداني يمكن البناء عليه.
أمام هذا العجز المركب بدأت تنتشر في أجواء المنطقة روائح تصعيد جديد عبر توسيع دائرة اللهب والنار ليشتد أوارها في العراق وبشكل غير مسبوق، وتنتقل بسرعات فائقة إلى الداخل اللبناني عبر عمليات تفجير وسيارات مفخخة واستهداف ممنهج للمقاومة وأنصارها، ولضمان انتشار الحرائق وعدم القدرة على تطويقها جاء اغتيال أحد رموز فريق الرابع عشر من آذار، وقد تزامن ذلك مع إطلاق بعض الصواريخ العشوائية من الأراضي اللبنانية باتجاه الأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني لجر المنطقة أكثر فأكثر إلى حافة الهاوية، لكن ذلك لن يثمر، والقذائف التي أطلقها الكيان الصهيوني باتجاه بعض القرى اللبنانية ليست أكثر من قنابل دخانية للتعتيم على محاولة حكومة نتنياهو التمظهر بمظهر القادر على الرد، ومن المعروف عن هذا الكيان النشاز أنه لا ينتظر ذرائع عندما ينوي العدوان، وبالتالي يبقى الأخطر الذي يهدد أمن المنطقة واستقرارها يكمن في محاولة جر لبنان إلى الفتنة، والاقتتال الداخلي، وإن كانت واقعية الإمكانيات تشير إلى إخفاق أصحاب الرؤوس الساخنة والأدوات المأجورة في تحقيق مثل هذه الأهداف الشريرة.
كل ما ذكر سابقاً يمكن سحبه على ما تشهده مصر الشقيقة والمحاولات اليائسة لإنعاش جثة المشروع الإخواني المحتضر، والانتفاضات الفجائية التي تظهرها الجثة على الساحة التركية يقابلها الكثير من الدلالات التي تؤكد أن أسياد أردوغان يستعدون لقذفه من قاطرتهم على قارعة الطريق، وبخاصة إذا أخذنا بالحسبان أن الحماقة الأكبر التي حاول أصحاب المشروع التسلطي على القرار الدولي التلويح بها هي الاقتراب المزعج من الحدود الروسية عبر البوابة الأوكرانية، وتزامن ذلك مع بعض الأعمال الإرهابية التي استهدفت الجوار الروسي والداخل الروسي، وهذا دليل التخبط القاتل بعد الارتطام الفعلي بجدار فولاذي سيساهم في تسريع حسم الميادين التي لا تزال مشتعلة، ولم يبق أمام أدوات واشنطن وأزلامها الأقزام إلا انتظار مصيرهم المحتوم الذي سبقهم إليه أمير قطر المخلوع ورئيس وزرائه بعد انتهاء تاريخ صلاحية الاستخدام.