مقالات عديدة من الصحافة الانغلوساكسونية تناولت هذا الموضوع حيال الحالة المعنوية للفرنسيين والقلق الذي يعتريهم، لكن هذه المرة صحيفة الايكونوميست البريطانية حاولت الكشف عن العامل الذي قد يكون السبب في هذه السوداوية المعممة في مقال عنوانه «الأناقة القاتمة» أو بمعنى آخر الأناقة المتجهمة.
تقول فيه: من يريد معرفة المسؤول عن التشاؤم والأسى الذي يكتنف غالبية الفرنسيين عليه الذهاب باتجاه الكتاب الكبار وهذا مايطلق عليه الانكليز «الألم الثقافي».
وفي دليل إحصائي موثوق الى حد كبير يقال: إن السعادة مفهوم صعب القياس ولايمكن لأي مقياس نلصقه على جسدنا أن يقيسها ففي فرنسا اليوم تجد الناس محبطين أكثر من غيرهم بكثير فهم أكثر إحباطاً من سكان أوزباكستان وأكثر تشاؤماً من الألبان وأكثر تعاسةً من اليونانيين، فالفرنسي من الطبقة الوسطى لا يبدو سعيداً أبداً رغم أنه يعيش في بلد متقدم لم تطله الأزمة الاقتصادية كغيره من الدول الأوروبية ورغم ذلك فإن نسب الانتحار في فرنسا هي الأعلى في أوروبا الغربية بعد بلجيكا ويبدو هذا القدر بل هذه اللعنة التي تنتقل بالعدوى أنها متمركزة داخل جينات أغلب الفرنسيين كداء ثقافي، فإذا كان مفهوم الحزن هو مفهوم ثقافي يتوجب علينا حتماً أن نبحث عن آثاره وعلاماته في الأدب وهذا ما تطلق عليه الصحيفة «تقاليد بؤسوية».
ففي قواميس المفردات وحول هذا المفهوم نجد هناك مرادفات كثيرة وغزارة في المعاني من قبيل: فوضوية, كآبة, قنوط, مرارة, هموم, خيبة أمل، نكد المزاج, سأم, سوداوية..... ألخ.
وخاصة مانجد على رفوف مكاتبنا المكتظة بمؤلفات تتيح لنا عرض أكثر من خمسين درجة لألوان السوداوية, و لأن الأدباء والكتاب الأكثر شهرة يستسلمون لأفكار محزنة وهذا ما أسس بشكل ما لتقليد أو إرث تشاؤمي.
ويعود هذا التقليد أو العرف الى القرن السابع عشر مع رينيه ديكارت الذي وضع مفهوم الارتياب كأول منعكس لكل فيلسوف إذاً ليس هو المسؤول الأول.
أما في عصر الأنوار (القرن الثامن عشر) فقد كان فولتير يسخر من الشخصية المتفائلة في مسرحيته كانديد، وشاتوبريان في «رينيه» كان يصور قلق العصر في شخصية شابة بائسة عاقر خائبة, وفي إحدى قصائده يقول فيكتور هيغو «السعادة في أن تكون حزيناً».
والأمثلة على هذه النماذج كثيرة إذ من الصعب أن نتحدث عن شارل بودلير دون أن نذكر سوداويته التي كانت الموضوع الأساسي لكثير من قصائده حتى في إحدى رسائله لأمه كتب يقول: ما أشعر به هو إحباط كبير وعزلة لا تطاق وخوف دائم من تعاسة مبهمة غامضة وحذر مريب مع غياب تام للرغبات و استحالة لإيجاد التسلية أنّى كانت», أليست تلك أنشودة فرح الحياة ؟؟
أما ألبير كامو وجان بول سارتر فقد اتخذا من الهم والسأم طريقة حياة وفلسفة وفرانسوا ساغان عنونت أول رواية لها «صباح الخير أيها الحزن» وافتتحتها بشكوى, أيضاً شخصيات ميشيل هوليبيك الذي يسوق على نسق واحد لوجود فارغ كريه منفر وغالباً مخيب للآمال.
فكل هؤلاء الكتاب الأعزاء على القراء الفرنسيين شاركوا في مأسسة «ثقافة الكآبة» لكن وبحسب صحيفة الايكونوميست دوماً فإن وراء هذا التقصي والتشخيص الصعب لابد من إيجاد فضائل لهذا التشاؤم المحبط إذ لابد من الإقرار بأن هذه السلبية حفزت الإبداع الفرنسي فالارتياب ورفض الإرضاء الذاتي أتاح لكل هؤلاء بالإبداع الثقافي.
وتجيب الاقتصادية الفرنسية كلوديا سينيك على الصحيفة الانغلوساكسونية بالقول: هل كانت فرنسا لتقدم الوجودية إلى العالم لو أن سارتر كان فرحاً خلي البال؟