انتحار امرأة خائبة ترتدي قناع التمرد.. يدحرج خيط الذاكرة نحو أخرى سبقتها زمنياً لكن التقت بها عشقاً.. فتقاطع مصيرهما موتاً.
بحسب الرواية، ما أرادته «آنا كارنينا» من اختيارها لانتحارٍ يُنهي ألمها.. كان رسم الحسرة والندم على وجه عشيقها «فرونسكي».
تلك أنهت حياتها..هرباً من خيبةٍ ورّثها إياها طيف حبيب.. والأخرى أنهتها كذلك هرباً.. لكن من خيبة أرادت إلصاقها على جبين من أحبت عبر صفعه بكثير من ندم.
آنا كارنينا وهانا شميتز.. اختارتا الموت ليكون موقفاً أخيراً أكثر بلاغةً من أي كلام..
هل هي الخيبة أم التمرد.. ؟
أي الوجهين.. أو التوصيفين.. هو الأنسب.. ؟
في أحدث نسخ الأفلام التي أُنتجت عام 2012، عن رواية ليو تولستوي (آنا كارنينا).. بطولة «كيرا نايتلي» و»جود لو» وإخراج «جو رايت».. يتلهى الفيلم تركيزاً على طرائق إخراجية بصرية.. كما غيره من كثير إنتاجات تكتفي باقتطاف قصة الحب من روايات شهيرة وتهمل السياق السياسي التاريخي الذي أفرزها.. إذ ليس في الفيلم أدنى تلميح للظروف المحيطة بالبطلين العاشقين.
تورد الرواية وتهتم لحالة من الصدمة والندم تصيب البطل العاشق «فرونسكي» ما يدفعه للهروب من واقعه نحو المشاركة بحرب في شبه جزيرة القرم.. وصورة وجه (آنا) محبوبته.. ملامحه التي ثبت عليها بعد انتحارها، لا تفارق ذاكرته. لا يذكر الفيلم أي شيء عن ندم «فرونسكي».
تدور أحداث قصة «آنا كارنينا» في سبعينات القرن التاسع عشر.. بينما أحداث رواية «القارئ» تقع ما بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين.. كتبها برنارد شلينك ونُشرت عام 1995، كانت غايته تتوجه نحو الصعوبات التي وجدتها الأجيال الشابة الألمانية في فهم فكرة (المحرقة).. أيضاً لم يهتم الفيلم بهذا الخصوص سوى بما ينساب في تفاصيل قصة الحب الناشئة بين سيدة في أواخر عقدها الرابع (كيت وينسلت التي أدت دور هانا شميتز) وشاب يافع (مايكل) في أواسط عقده الثاني.
نسيج الحب الرابط ما بين القصتين.. يختلف بالتفاصيل.. لكن من حيث شدة العاطفة والنتيجة التي أوصلت إليها كلاً من البطلتين فكانت واحدة.. (الانتحار).
مع نماذج أدبية سينمائية من هذا النمط.. تكتمل دائرة الحيرة الإنسانية «الوجودية».. وتنفتح ألغاز السؤال.. فهل كن مضحيات أم متمردات.. رائعات أم مضطهدات.. منتصرات أم هن أكبر الخاسرات.. ؟
تنفلش معهن كل الأسئلة.. لتبقى الأجوبة معلّقة تزيد من اتساع دائرة الحيرة..
فما الذي دفع ب(هانا) للانتحار بعد أن أمضت كل فترة سجنها.. بعد أن خسرت ما يُقارب العشرين عاماً من عمرها بسبب جريمة لم ترتكبها.. لماذا بفارق يوم واحد عن إطلاق حريتها.. وبعد أن قابلت من أحبت.. ما مضمون الرسالة التي أرادت توجيهها له.. والتي خطّتها انتحاراً.. ؟
ما هذا الحب الذي يدفع المرء، عند انعدامه، إلى إنكار الوجود رافضاً الحياة بمجرد استشعاره أصغر إيماءة رفض من الحبيب.. ؟
ينطلق حبل الخيال صوب الكثير من النماذج النسائية.. لاسيما في أدب القرن التاسع عشر الذي قارب على جعلهن كنوع من نسخ «فوتوكوبي».. يائسات متمردات بطعم من لوعة ويأس توصلهم إلى الموت انتحاراً..
ألا تندرج «إيما بوفاري» ضمن هذه التشكيلة العشقية الأنثوية.. ألم تنتحر هي الأخرى.. وإن اختلفت أسباب ودوافع إقدامها على ذلك.. ؟
لربما لا يكون التمرد عشقاً.. نقطة لقاء جامعة ما بين (هانا) وكل من (آنا) و (إيما).
تنفرد (هانا) وتتفرّد عن الأخريات بأن تمردها كان، ضمنياً، في وجه من أحبّت.. لم يوجه إلى مجتمع وتقاليد كما الأخريات.. والفاصل الزمني هو الذي يلعب دوراً مهماً في هذا الأمر.. إذ كانت اختلفت معايير وأخلاقيات المجتمع ولم تعد ضوابطه بتلك الصرامة التي أحاطت شخصيات من مثل « آنا كارنينا» و»إيما بوفاري».. اللتين لم تكونا الوحيدتين حتماً، إنما الأبرز والأشهر.. لأن قلم المبدع كان كفيلاً بالتقاط قصة كل منهما و»نمذجتها» وفق صورة العاشقة.. ضحية الحب مهما بلغ تمردها وتحدّيها لقوانين مجتمعها من قوة تدفع بها إلى الانتحار.
هل يمكن قراءة انتحار الاثنتين (إيما وآنا) كنوع من الرفض لقسوة المجتمع المحيط بهما و إنكار معاييره...
بين إضفاء (العام) على دافع انتحار «آنا».. وإبقاء (الخاص) دافعاً وحيداً لدى «هانا».. وسواء أكان انتحارهما تمرداً.. رفضاً.. خيبةً.. أم هروباً.. نجحتا بقطف انتباه من أحببتا.. لوي عنق نظرهم ولو مرة واحدة إلى الوراء..