ومكنته هذه الخطوة ، بالتنسيق مع بنيامين نتنياهو من تجنب الإطاحة به في انتخابات حزب العمل المقبلة. كما مكن حكومة نتنياهو من البقاء واقفة على قدميها. وكان وزراء حزب العمل منذ فترة طويلة يهددون بالانسحاب في ضوء عدم إحراز تقدم نحو السلام، وهو أمر جيد، وان كان بلا نتائج .
واليوم، وبفضل حزب الاستقلال، تبدو حكومة نتنياهو ثابتة لا تتزعزع.
وجاءت حيلة باراك ونتنياهو هذه بعد الخسائر الثقيلة للديمقراطيين في الانتخابات النصفية للكونغرس الاميركي، والتي دفعت الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى التركيز على القضايا الداخلية، وهو ما جعل نتنياهو وباراك يتنفسان الصعداء. فالضغوط الاميركية بشأن الممارسات الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين توقفت الان، وبات بإمكانهما فعل ما يحلو لهما والمماطلة ازاء القرارات الدولية .
في 25 كانون الثاني 2011 ، جرت احداث ما كان لاحد توقعها ، وانقلبت منطقة الشرق الأوسط رأسا على عقب. أطيح بالرئيس المصري حسني مبارك ، الذي كان قد حافظ على علاقات دافئة مع أميركا وإزالة التهديد الاستراتيجي لاسرائيل ، في انتفاضة شعبية. اختفت فجأة قبة الحديد التي استمرت لمدة 30 عاما وسمحت لإسرائيل أن تفعل ما تشاء بالفلسطينيين. وبقي نتنياهو الذي تقطعت به السبل مع الاحتلال وحكومته اليمينية في ظل عدم وجود مبارك للتغطية على تصرفاته المتهورة ، ولا زين العابدين بن علي في تونس ، ولا أي من اصدقائه الحكام المستبدين في المنطقة العربية لان الكل بات خائفا على عرشه.
والشرارة الأولى للثورة انطلقت في مصر قبل حوالي عشر سنوات عندما وقعت اضرابات العمال عام 2008 في المحلة الكبرى. وعلى نطاق اوسع ، يمكننا اعتبار الانتفاضة الفلسطينية في تشرين الأول عام 2000 على أنها بداية النهاية لمبارك.
اندلعت هذه الانتفاضة بعد فشل المحادثات انذاك بين رئيس الوزراء ايهود باراك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. ولم تكن الاحتجاجات في البداية موجهة أساسا ضد إسرائيل ، وإنما ضد السلطة الفلسطينية، حيث لم يتمكن اتفاق اوسلو الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل عام 1993 من جلب السلام والازدهار والديمقراطية التي وعد بها الفلسطينيون. وبدلا من ذلك ، كان الفساد والفقر والبطالة والحكم الفردي الذي يشبه الانظمة التي تنهار اليوم .
لم يكن الفلسطينيون ولا عرب 48 فقط من خرجوا الى الشوارع في تشرين الأول 2000. لقد خرج العالم العربي كله متحدا ضد اسرائيل. وهنا النقطة الحاسمة : تشرين الأول 2000 خرج الشباب المصريون الى ميدان التحرير لاول مرة، وكسروا الحاجز النفسي الذي كان حتى ذلك الحين يمنعهم من التظاهر. ولم يفعل النظام المصري أي شيء لمواجهة الغضب ضد اسرائيل. ويمكننا ضمنيا اعتبار مظاهرات تشرين اول 2000 ضد الرئيس مبارك نفسه لتعاونه مع إسرائيل.و بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، خرج المصريون مرة اخرى الى الميدان، وهذه المرة للتظاهر ضد الاحتلال الاميركي للعراق .
أدركت إدارة الولايات المتحدة ، ولا سيما ادارة أوباما، مكمن غضب الشعوب العربية. وفهمت الولايات المتحدة ان الازمة الناجمة عن ثماني سنوات من حكم جورج دبليو بوش الذي حرض ضد الإسلام ودعم إسرائيل بشكل اعمى. ولهذا السبب قرر أوباما إلقاء خطاب في جامعة القاهرة في محاولة لفتح صفحة جديدة مع العالم العربي. ولكن خلال السنة التي تلت ذلك توجه أوباما إلى إسرائيل، وتوسل إليها تارة وضغط عليها تارة أخرى، بغية احداث تغيير حقيقي في العلاقات مع الفلسطينيين ، وبالتالي انقاذ حلفائه في الشرق الأوسط . ولكن دون جدوى.
واعتبرت إسرائيل خطاب أوباما في القاهرة معادياً للسامية. وشدد نتنياهو وايهود باراك على أنه لا يوجد أحد يمكن التحدث إليه وليس هناك ما يمكن الحديث عنه، وان احتفاظ إسرائيل بتحالفها مع واشنطن، أكثر أهمية بالنسبة لهما من حلفائهم الاخرين في المنطقة. ولم يكن لديهم اي تخوف او قلق إزاء ما قد يحدث مع الحكام المستبدين في الدول العربية الصديقة لهم .
ان حربين في لبنان، وانتفاضتين وهجمتين اسرائيلتيين ضد المنشآت النووية العربية، والعديد من الاغتيالات الغامضة، لم تشكل اي تهديد للحكام العرب. ولكن مع تغير الزمن، نشأ جيل عربي جديد ، متعلم ومتحضر ، متصل بالعالم من خلال الانترنت والبث الفضائي الذي لا يخضع للرقابة . هذا الجيل استخدم ادوات حديثة في ثوراته، للمطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وليس بالقضاء على إسرائيل المكروهة من قبل العالم العربي ، ليس فقط لأنها تضطهد الشعب الفلسطيني، ولكن أيضا بسبب تعاونها مع الأنظمة العربية التي تتجاهل محن ومشكلات مواطنيها.
لقد تغير الزمن. لكن العرب يتذكرون عام 1956 عندما حاولت إسرائيل بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا الاطاحة بالرئيس المصري جمال عبد الناصر عن طريق احتلال سيناء ، ولكنها انسحبت تحت إصرار واشنطن. وفي عام 1982، احتل رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن لبنان لتنصيب بشير الجميل رئيسا بالقوة ، ولكن الجميل اغتيل بعد شهر من ذلك، ونتائج هذا الغزو لا تزال تلاحقنا حتى يومنا هذا. ومنذ ذلك التاريخ، باتت إسرائيل أكثر إدراكا لحدود سلطتها . ورأينا جليا من نتائج غزو اميركا للعراق وافغانستان وحماقة محاولة فرض تغيير النظام من الخارج. الجدران باتت تضيق الخناق على نتنياهو ، والممر الضيق يفضي إلى استنتاج واحد وهو ان أيام الاحتلال أصبحت معدودة.
هذا الاسبوع تلقينا أول التلميحات عن ذلك ، عندما أرسل نتنياهو الجيش الإسرائيلي لتفكيك بؤرة استيطانية غير قانونية من هافات جلعاد. هل أدرك اخيرا انه سيكون في مواجهة مع المستوطنين ، وأنهم في المقابل ، سيبتلعون حقيقة أن وجودهم في الضفة الغربية امر مؤقت. واوضح نتنياهو لزملائه في حزب الليكود أن الظروف قد تغيرت وان المجتمع الدولي بدأ يفقد صبره ، قائلا: إنه ليس على استعداد لضرب رأسه بالحائط.
والواقع أن اي شخص ، إن لم يكن بيبي ، يفهم مدى الالم الذي سيحدث نتيجة ضرب عقل عنيد بالحائط ؟ إذا لم يسرع ويفعل شيئا ، سوف يخسر محمود عباس أيضا ، ولن يكون اليوم الذي يعاود فيه الفلسطينيون نضالهم من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية بعيدا، ما يجعل إسرائيل تبدو جنوب أفريقيا في ظل الفصل العنصري .
مصر الجديدة ، بعد 25 كانون الثاني ،تسعى للتخلص من النظام القديم الذي تعتبر إسرائيل جزءاً منه . وإن عمليات الدمقرطة والتحديث لا يمكن ايقافها بواسطة صواريخ «اورو» أو طائرات مقاتلة. السلاح لا يمكن أن يوقف توحد العرب معا برفقة الشعوب الاخرى في العالم، بعد أن جردت سنوات من العزلة والانطواء على الذات العالم العربي من حقوق الإنسان الأساسية ، وتركته دون اي آفاق وفرص عمل أو كرامة. تلك السنوات اقتربت من نهايتها.
وقد حاولت اسرائيل منذ فترة طويلة الحفاظ على النظام القديم لضمان امنها ، وتقديم نفسها باعتبارها المدافع عن الديمقراطية والحضارة، لكنها أخفقت ، بعد ان اتضحت الحقيقة المخالفة لذلك. الديمقراطية هي الأوكسجين للجماهير العربية، ومن أجلها يذهبون إلى الشوارع ويعرضون حياتهم للخطر.
اليوم ، ونتيجة كل هذه التطورات، فإن السؤال الأصح هو : هل اسرائيل مستعدة للتخلي عن احتلالها المخزي للأراضي العربية، وهل هي مستعدة للديمقراطية؟
وهل هي مستعدة لشرق أوسط جديد ومن نوع آخر؟!.