ما أكرم السماء في تلك السنة!.. حتى الفقير اشترى الكمأة, والأخ عاد يحب أخاه! وأينعت النفوس في حضرة الشتاء.. ما سأحكيه حدث ذات مطر..
-2-
عندما دخلت إليه كان سريره بجانب النافذة الواطئة, كان جالساً يتأمل المطر بوجوم رهيب، لكأنه لا يعاني من مرض! ولم ينتبه لوصولي إلاّ بعد أن هززته بيدي, عندها جفل وحوّل نظره عن النافذة. ومن وراء محجريه الغائرين، وسعاله المزمن حدثني عن شجاعته وقوته السالفة.. ثمة اكفهرار على الوجوه من حوله رغم خير السماء!.. بدا وكأن الطير على رؤوس أبنائه وأحفاده..
خمنت أن رهبة المرض والحزن عليه هو الذي وشم وجوههم بتلك الحلكة وذاك الترقب..
استمعت له طويلاً قبل أن أضع السماعة على صدره.. أحداث لا تصدق! كان أول شيء وصفه لي هو سعادته الغامرة بالمطر والخير هذه السنة.. وكلما ذكر المطر تلألأت عيناه بالحبور، وشفّ عن ابتسامة متعبة بلون الرصاص, وما إن بدأت بمعاينته السريرية ووضعت المسماع على صدره لأنصت حتى ذهلت! فمن المفترض أن أستمع لزئير رئتيه طالما هو مصاب بذاك المرض الذي حدثني عنه منذ قليل على انفراد أحد أبنائه.. وهو التليف الرئوي!.. ولكن ما إن انتهى من حكاياه الغابرة, ووضعت السماعة على صدره حتى سمعت صوت الرعد والمطر ينبعث من وجيب أنفاسه وزئير رئتيه! سمعت لهاثه وهو يدخل إلى تلك المغارة التي حدثني عنها، ويسحب ضبعاً من وكره.. وسمعت أنفاسه المتفاخرة وهو يرفع عربة إلى أعلى رأسه، ثم سمعت صوته وهو يزأر ملاحقاً رجال الآغا (ناصيف ناصيف).. ليس هذا فحسب بل سمعت أصوات استغاثاتهم, وهو يلاحقهم وحيداً بالمذراة, وصراخهم وهو يحاصرهم في بيت قديم، وصوت المذراة وهي تخترق عظامهم.. وأصوات تقبيل قدميه وهم يسترحمونه، وسمعت غناءه وهو يحصد من الصباح إلى المساء, لكن ما أذهلني بهذا العجوز شيء أبعد من الصحة التي يبغيها.. شيء أعظم من الحياة.. شيء أمضى من حقنة منومة كنت أتذاكى بحقنه إيّاها.. فما أن انتهيت من فحصه حتى أسقط في يدي.. العيون المتوجهة إلي تضعني في خانة الامتحان.
ما راعني أن ذلك العجوز لم يتكلم عن ألمه ومرضه أبداً! لكنني تركته يغط في نومه بعد أن حقنته بالمنوِّم فيما لحق بي أبناؤه.. سألوني بلهفة عن حاله، وعندما أخبرتهم بأنه سيكون أفضل، شحب لونهم واكفهرت معالمهم.. ظننت أن الخبر سيفرحهم.. وكانت تلك أولى مفاجآتي عن وحشية الإنسان!.
في اليوم التالي عدت لزيارته.. وجدته في وضع أسوأ، وقد شحبت شفتاه وجفتا.. فيما يلتف أفراد عائلته الكبيرة واجمين حول المدفأة. حاول أن يفتح فمه الناشف ليقول لي شيئاً، فخانته شفتاه الملتصقتان، لكنني قلت له من فوري:«فهمت.. فهمت..» كنت أظن أنه سيصف لي آلامه، وحتى لا أتعبه، أخرجت الحقنة المنومة وجرّعته إياها.. حاول بعينين ضارعتين أن يتحدث إلي، ولكن الحقنة كانت أسرع وطأة.
تكرر هذا السيناريو لعدة أيام، وفي كل مرة أجد المرض وقد استعمره أكثر، فيما جسده ينزلق رويداً رويداً عن حافة النافذة.. وفي كل مرّة يحاول أن يحدثني، فيما أنا المتماهي بنبلي، أقول له:« فهمت.. فهمت..» ثم أجرعه النوم والنسيان.
-3-
قبل أن يموت بيوم واحد، وفي خلوتي الليلية وأنا أكتب عاد إلي الإنسان الطبيعي البعيد عن صفة الطبيب. تذكرت نظراته الراجية، وتشنج يديه المستجديتين وهما تشدان على يدي.. « هذا العجوز يريد أن يقول لي شيئاً لا علاقة له بمرضه.. رباه.. ما أغباني إن كان هذا صحيحاً!.. هو بالتأكيد لا يريد أن يحدثني عن شبابه.. ولا عن مرضه.. إذاً ما الذي يود قوله ذلك العجوز؟» في الصباح قصدته.. السماء شلال فرح.. وهدير السيول سيمفونية الهزيع.. والرعد مزمار رحب.. واللمع شمعة وحنطة. عندما دخلت إليه وجدت أفراد عائلته يرتجفون برداً، راعني منظر النافذة المفتوحة، والمطر يتناثر فوق لحافه حتى بلله، وراح ينسل من تحت السرير.. « ما الذي حدث؟» سألتهم، فأجابوا بصوت واحد:« أنظر يا دكتور.. لقد أجبرنا على ترك النافذة مفتوحة ليدخل عليه المطر!!»
جلست جواره على السرير.. وهو يلهث بأنفاس متلاحقة.. بينما أصابعه ماتزال متشبثة بحافة النافذة، وكأنه جاهد كي يصل إلى مستوى النور ليرى الشارع، لكن وهنه خانه.. عندما لمست يديه ازوّر بعنقه إلي.. كل مافيه ينضح بالتوسل.. حتى تجاعيد وجهه الناحل الشاحب، هذه المرّة سأستمع له. شنج ساعديه وأشار إلى النافذة.. فهمت أنه يريد أن يرى المطر.. فساعدته حتى استوى.. وما إن فرش الضوء وجهه حتى هلل بأسارير غامضة اختلطت مع ترقبي لما يريد قوله. استطاع بعد جهد حلّ شفتيه الملتصقتين، ثم افتر عن صوت أبح ضعيف آتٍ من أعماق الموت قال لي وهو يبكي: « أنا ماني خايف من الموت.. بس دخيلك يا دكتور .. دخيلك.. ألله يطول بعمرك.. خليني عايش حتى شوف موسم الحنطة هالسنة.. وبعدها لو متت معليش..»
توقف شعر رأسي, نسفني وابل الحسرة, ورحت أرتجف، لا أعرف كيف بقيت متماسكاً.. ففتحت له مصراع النافذة الأخرى، وأسندته بوسادة مرتفعة حتى أطلّ بوجهه على الشارع فيما راح المطر يغرق وجهه، وأسرعت أهبط درجات العلية. رحت أبكي.. وعندما أصبحت في الشارع المقابل لنافذته.. توقفت وشيعته.. كان مازال يرنو إلى المطر بنظرة دافئة آملة.. فيما أنا الحي أتأمل إليه بنظرة منتحرة...