الذي يصر جورج بوش على أنه جزء من استراتيجية متكاملة دون أن يقول ما ملامح هذه الاستراتيجية وما هدفها بمعنى آخر فإن ما تعلنه واشنطن حتى الآن مجرد أفكار لا تتصدى للكثير من العناصر الأساسية للمشكلة العراقية.
كما تغفل في كثير من الأحيان الظروف والمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية التي يمكن أن تسهم في تغيير الأوضاع سلبا أو ايجابا وبالتالي فما تقدمه إدارة البيت الأبيض ليس أكثر من (مكسنات) مؤقتة لمرض عضال وليس علاجا حاسما نهائيا له.
ثمة ملاحظة مهمة ينبغي رصدها وهي أن العنصر الزمني يبدو غائبا تماما عن تفكير السياسيين الأميركيين فهم يتحدثون بالرفض أو القبول عن جدول زمني للانسحاب من العراق دون أن يتحدثوا في المقابل عن جدول زمني آخر مطلوب لحل المشكلات التي خلفها الاحتلال الأميركي للعراق لأن إعادة بناء دولة مهمة شاقة وممتدة تحتاج إلى بيئة آمنة مستقرة داخليا وهذه الظرف لا تتوافر حاليا أو في المدى المنظور في العراق. بسبب القصور البالغ الذي يشوب الرؤية الأميركية في إدارة الأزمة العراقية الحالية وعجزها عن طرح استراتيجية شاملة تراعي جملة العناصر والقضايا والمشاكل التي تواجه الاحتلال الأميركي والوضع العراقي الراهن فقد صدرت مجموعة دراسات جادة من معهد دبروكنجز الشهير للأبحاث السياسية في واشنطن تقدم رؤية واضحة متكاملة طالما أفتقدتها إدارة بوش.
وأهمية تلك الدراسات أنها لا تطرح تصورا واحدا لمواجهة الأزمة العراقية ولا تقدم استراتيجية محددة للخروج من المأزق الراهن زاعمة أنها الأفضل. ويمثل عنوان إحدى الدراسات الصادرة عن المركز المذكور صفعة قاسية لسياسة الرئيس بوش حيث جاء على النحو التالي:(فرص متداعية للاستقرار.. البدائل الأقل سوءا في دولة فاشلة تمزقها الحرب الأهلية).
فقد جاءت مقدمة الدراسة أشد قسوة بما أطلقته من أحكام قاطعة حيث تقول بالنص:(إن المؤشرات توضح أن مصير الحملات الأمنية التي تقوم بها القوات الأميركية في العراق هو الفشل وأن وقف الحرب لم يعد بمقدور تلك القوات وأن زيادة عدد الجنود الأميركيين لم ولن يؤدي إلى إعادة الاستقرار).
تحدد الدراسة أربع بدائل هي التركيز على احراز نصر عسكري حاسم ونهائي الاكتفاء بتحقيق حد أدنى من الاستقرار الأمني الإنسحاب العسكري الاحتواء بمفهوم مختلف. فيما يتعلق بالنصر حدده بوش في كانون 2007 هو الوصول إلى هدف ( إقامة عراق ديمقراطي يدعم حكم القانون ويوفر الأمن ويكون شريكا في الحرب على الارهاب ولتحقيق ذلك لابد من توافر اشياء يبدو بعضها مستحيلا في ظل الظروف الراهنة وتشمل:
1-قوة عسكرية دولية مضاعفة لفرض الأمن على الأرض.
2- اتفاقا سياسيا محليا يشمل عائدات وانتاج البترول والفيدرالية وحقوق الأقليات والميليشيات والعفو عن المسلحين.
3-الدعم الاقتصادي.
4-حشد الدعم الدولي طويل الأمد وبالتالي يتضح أن تحقيق النصر بالمفهوم الذي حدده بوش أو بأي مفهوم منطقي مقبول هو أمر صعب إن لم يكن مستحيلا في ضوء الأوضاع المحلية.
أما فيما يخص الاستقرار فهو أمر على الرغم من تواضعه يبدو عسيرا ومستعصيا على القوات الأميركية الغارقة في المستنقع العراقي. وفضلا عن ذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية تجد نفسها تدور في دائرة مفرغة عند محاولة الوفاء بشروط تحقيق هذا الاستقرار الصعب. أما مسألة الانسحاب فيبدو أنه لم يعد هناك لدى الإدارة الأميركية حل آخر غيره للتعامل مع الأزمة العراقية ولم يعد أمامها إلا الهرب تفاديا لمزيد من النزيف البشري الذي تتعرض له والانسحاب يشكل اعترافا صريحا بالهزيمة الأمر الذي تستبعده الإدارة الأميركية الحالية.
وأمام تعذر الانتصار والفشل في تحقيق الاستقرار فلن تجد الولايات المتحدة أمامها سوى سياسة الاحتواء وهذه المرة تختلف عن تلك السياسة التي استخدمتها في زمن النظام العراقي السابق فيما عرف في تلك الفترة ب(الاحتواء المزدوج).
من خلال ما تقدم نجد بأن السياسة الأميركية تجاه العراق تفتقد الواقعية وتهيمن عليها منذ اتخاذ قرار الغزو ولم تطرح بالتالي أي استراتيجية للعمل لحل الأزمة الراهنة ولم تطرح أو تقدم أي تصورات سياسية واضحة حيال العراق.
وهنا نتوقع المزيد من الإجراءات والقرارات والإدعاءات من جانب إدارة بوش التي تستهدف تحسين موقف الحزب الجمهوري أكثر من تقديم حلول حقيقية للمشاكل العراقية.
ويجب أن تعترف بأن الأزمات التي تحرق العراق حاليا وتعاني منها الولايات المتحدة في الوقت نفسه هي -في الأصل- من صنعها نتيجة لسوء إدارتها للحرب من البداية وهي تركة ثقيلة سيتركها بوش لمن يأتي بعده.
حتى لو ادعت واشنطن بأن قواتها حققت نصرا كبيرا في معركتها الحالية فهذه القوات لن تعيد الاستقرار إلى العراق ولن تصلح ما أفسدته الإدارة الأميركية هناك طيلة السنوات الأربع الماضية وأخيرا لن تعيد ثقة العراقيين في تلك الإدارة.