تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الأحلام: تمارين على الرؤيا

كتب
الأربعاء 21/11/2007
أحمد علي هلال

ترى ما القاسم المشترك بين أعمال روائية بعينها,كالحرب والسلام لتولستوي,وكيف سقينا الفولاذ لأوسترافسكي,والخروج الى الهواء الطلق لأورويل,ومراسم الجنازة لجينيه ..

أو أعمال سينمائية منها على الأقل حقول القتل لآلان جوفي?!‏

إنها الحرب بفضاءاتها التراجيدية المركبة.. الحرب التي سعت لترجمتها بالصورة مخيلة كبار السينمائيين في أوروبا والغرب دون اغفال خصوصية النص الروائي- الأصل- في احتفاظه بطاقة الخيال القصوى,التي تعيد تشكيل الصورة المحكومة-على الأغلب - بما يمكن تسميته بسلطة المرجع الواقعي وبسياق الوثيقة.‏

لكن الحرب كتجربة,نجدها لدى أندريه مالرو الشاعر والروائي والوزير في عهد حكومة ديغول بالمعنى الواسع,أي ليس بتأريخهعا وحسب بل بالمعنى الذي انطوت عليه روايته الضخمة - الأمل- بأجزائها الثلاثة,الوهم الغنائي ونهر المانثانارس (نهر وادي الرمل)والأمل,ليقوله مالرو وهو يقارب الحرب الأهلية الاسبانية وهو قد انخرط فعلاً في الثورة التي قادها الجمهوريون الاسبان ضد الجنرال فرانكوا وطغمته برواية متخففة من علامات حداثية وذات طبيعة كلاسيكية تجتمع لها حبكة تقليدية,وسرد مضاعف متواتر على مدى الفصول والأجزاء والوصف الدقيق لسير المعاوك لا سيما التي يخوضها الجمهوريون والعمال المضطهدون المنضوون في الميليشيا وسواهم مما يشي به الفصل الأول من الرواية,لكن- مالرو- لا يكتب سيرة الحرب- كمشارك فقط.‏

إنها روايته كمثقف بامتياز يتكئ على الوقائع واليوميات لينشئ قولاً روائياً يجعل من الحرب بثقل تفاصيلها مجازاً ضرورياًَ ليفصح عن علاقة المثقف بمفهوم الحزب وبمعنى الفاشية,وبدلالات الصراع بين الأطياف المجتمعية وليفصح أكثر عن الأبعاد الانتقادية للمثقف ودوره في مؤسسات عديدة,فهو يغلب طابع المحاورة الفلسفية بمحاكمتها للأفكار والمذاهب لاسيما في المحاورات الدينية اللاهوتية.‏

بين الشخصيات الفاعلة (أقنعة المؤلفة) راموس,اسكالي,جارسيا,جرينكو,سمبرانو..‏

فالرواية في خطاب الأقوال تسفر عن رؤى - مالرو- الرائي للحرب لكنه السياسي المحلل وإن بدا ساخراً,متهكماً كما على لسان احدى شخصياته : لقد كسرت احدى أسناني أثناء الأكل ولم يعد لساني يهتم إلا بهذه السن المكسورة فهو لا يعبأ بمكافحة الفاشية.‏

واذا غادرت الراوية منحى حداثياً مفترضاً فهي تجهر بأسلوبيتها وبمضمراتها الحكائىة كمثل الحكاية التي ترد على لسان فلاح: يروى أن الملك قد مر ذات مرة على اقليم الأوردس في أثناء رحلة صيد, وسكان تلك البلاد مصابون بتضخم الغدة الدرقية بلهاء مرضى يعيشون في فقر مدقع,الى درجة أن الملك لم يصدق أنه من الممكن أن يكون الناس على مثل هذا الفقر,وكانوا أقزاماً فقال الملك: لا بد أن نصنع شيئاً من أجل هؤلاء الناس,فقالوا له: أجل يا مولاي .. كما جرت العادة,لم يفعلوا شيئاً...‏

ولما كانت تلك البلاد في غاية التعاسة فقد أرادوا أن ينتفعوا منها ومن ثم جعلوها للسجناء كما هي العادة ثم ..‏

الأمل وبسياقاتها المتواترة تضعنا أمام معنى التفكير السياسي في لحظة الحرب أو على الخط الفاصل بين الموت والحياة,أو استثنائية البطولة والمأساة,تلك اليتمة التي تستغرق الرواية بأكملها,ولو أن خطاب الأفعال سيحيل الى صور مدركة ملموسةتكاد أن تكون بصرية.. لا سيما في معارك الطائرات, أو مواجهات رجال الميليشيا مع أنصار الجنرال فرانكو, (لا وجود لتفكير سياسي إلا في المقارنة بين شيء ملموس, وشيء آخر غير ملموس.. أن تختار بين منظمة أو منظمة أخرى, لا بين منظمة أو رغبة وحلم ورؤيا).‏

هنا تكمن تراجيدية (الأمل) الرواية التي تجعل من دراما الحرب (القتل, الأسر), الموت, العنف, واقعاً مضاداً لما يألفه العقل وتطمئن إليه الحواس, (حينما يكون المرء متزوجاً من سياسة فحسب, فليس للأمر أية أهمية, ولكن حين ينجب منها أطفالاً?!)‏

هكذا يبسط -مالرو- الرؤيا ليعطيها متخيل الحرب, الحرب التي رآها (مانويل) كمن يدخل قطعاً من الحديد في اللحم الحي.., ما الفرق بين الرؤيا والثورة?! يجيب مالرو: (إن الرؤيا تريد كل شيء, أما الثورة فتحصل على القليل, وظيفتنا هي تنظيم الرؤيا), لطالما أن الأساطير التي نعيش عليها متناقضة (النزعة إلى السلام, وضرورة الدفاع والتنظيم, والفعالية والعدالة.. هل بترتيب هذه المتناقضات تتحول الرؤى إلى جيش?!‏

إن كثيراً من الناس ينتظرون من الرؤيا أن تحل مشكلاتهم, غير أن الثورة تتجاهل آلاف الكمبيالات المسحوبة على حسابها وتمضي في طريقها, بيد أن (رائحة الصلب الساخن, والتربة المحروثة) تجعل من الرؤيا تمارين فحسب أمام ما عناه »الشيخ) من غياب ذات ليلة للروائيين ورجال الأخلاق أمام الموت.. هنا بالضبط نحرز دلالة متوقعة من الأمل بنشيدها المدمّى, فالموت الذي يعبر إحساسنا العميق سيفقد كل حقيقة ميتافيزيقية, لأن الأمل الوحيد الذي تحاوله إسبانيا الجديدة, سينهض على ماهية الإنسان -ما يجعل الإنسان إنساناً, تحسم الرواية ذلك بالتبشير بأن عصر ماهو جوهري يبدأ من جديد, وينبغي أن يقوم العقل على أسس جديدة.‏

فالالحاح على ماهو جوهري يجد تعبيره في الانسان والعصر فهل الحرب ورطة , أشبه بمن تجّرع سماً سيأتي مفعوله بعد بضع ساعات?!‏

لعل الاجابة في تضاعيف رواية ضخمة سيكون ناقصاً لم يأخذ بالحسبان احدى أهم مقولات الرواية:‏

»إن الصراع والرؤيا والأمل مجرد طعم تستخدمه الحرب لاصطياد الرجال)‏

الآن تبدأ الحرب, ليست جملة ختامية,هي جملة تفسيرية أراد مالرو أن يبحث عميقاً في إمكانية المصير التي تجعلنا نكتشف الحياة مرات عدة , لو أن الانسان توقف عن القتال لغطت الغابة اوروبا في أقل من ستين عاما....‏

خبرة الأمل في جزئنا الذي يقول لا,وفي كلّنا الذي يعرف امتياز الحلم....وإلا فما يعني اعادة نشر الرواية وهي قد عرفت لأول مرة في بداية السبعينيات من القرن الماضي.‏

الكتاب : الأمل - المؤلف: أندريه مالرو - الناشر: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - 2007 - في 672 صفحة‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية