إذا ما سلّمنا بنتائج هذه الدراسة وبقيمة العيّنة التي أجريت عليها الدراسة فإننا نطرح السؤال بالاتجاه المعاكس وهو: ما الذي يبقي هؤلاء الشباب على أملهم بحياة لائقة ودخل جيد في بلدهم؟
أو بتعبير آخر: هل تلغي الوظيفة الحكومية أو فرصة العمل فكرة الهجرة من ذهن الشباب؟
سنحاول الإجابة على السؤالين السابقين ونستعرض حالات مختلفة تغلّب من خلالها شبابنا على تفكيرهم بالهجرة ونمرّ على تجارب بعض الذين هاجروا من أجل الحصول على دخل أعلى وكيف عاشوا في بلدان الاغتراب وبماذا عادوا منها؟
مَن تسيطر عليه فكرة الهجرة قد يكون من الصعب إقناعه بالبدائل المحلية لأنه يكون قد خبرها وجرّبها أو سعى إليها من وجهة نظره ولم يقتنع بجدواها أو يعتبر حالته استثنائية، وفي هذه الحالة قد تكون تجربة الهجرة هي الوحيدة القادرة على إثبات العكس لديه..
هل من بدائل؟
نفتّش عن البدائل وعن اختلاف القناعات بهذه البدائل أو الاتفاق على تسميتها بدائل، وإذا ما استثنينا الوظيفة الحكومية هل هناك حقاً عملٌ ما يضمن دخلاً جيداً لشباب اليوم ويعطيهم الأمان للمستقبل؟
هل هناك ثقة بالنفس تخوّل صاحبها القيام بمثل هذه الأدوار الريادية التي ستتحول يوماً ما إلى أنموذج يُحتذى من قبل غيره؟
هل يقع على عاتق المجتمع ومؤسسات الدولة أي واجب إضافي لاحتواء تطلعات الشباب في حياة كريمة ودخل مستمر؟
لنتفق، أو لنناقش بداية، على أن الثقة بمثل هذه المحاولات تتطلب أدلة واقعية من حياتنا نعرضها بكامل مفرداتها وتفاصيلها على الراغبين بالهجرة وندعوهم للتعايش معها قبل اتخاذ القرار النهائي، لكننا وبكل أسف نجد صعوبة بالغة في إيجاد مثل هذه الحالات..
تدخّل رسمي
الدولة بمؤسساتها المختلفة دخلت بشكل إيجابي على هذه المحاور بكل أمانة فقدّمت التمويل اللازم لمشاريع صغيرة ومتوسطة، ووفرّت جميع المصارف في سورية القروض المساعدة وبشروط ميسرة للطالبين من أجل تمويل أولى خطواتهم العملية، وعلى الورق توجد العديد من هذه المشاريع المرخصة باسم الشباب ولكن على أرض الواقع لا يوجد ما يدعم هذه المسألة فالمشاريع المرخصة معطّلة ومتوقفة والقروض ذهبت في غير اتجاهها، فمنهم مَن سدّد ديونه ومنهم من جهّز نفسه للزواج ومنهم من اشترى سيارة وبدل أن (تتحلحل) مشاكلهم تفاقمت مع الأقساط المطالبين بدفعها شهرياً..
هناك حالات إيجابية لا نستطيع تجاهلها لكنها لا تشكّل توجهاً عاماً، فهناك من بدأ تجارة بسيطة وشيئاً فشيئاً أصبحت ذات مردود جيد، وهناك من استغل هذا الدعم في استثمار زراعي ونجح، وهناك من امتلك الجرأة أكثر وتحوّل إلى رجل أعمال (على قدّ حاله)..
من قرض بسيط اشترى (علي) بقرتين، وجهّز لهما حظيرة متواضعة ومرّت بضع سنوات فأصبح القطيع (6) بقرات..
قال: فكّرتُ كثيراً كيف سأستثمر القرض الذي حصلت عليه فقررت شراء بقرتين والاعتناء بهما، فرحتُ أصرف عليهما وعلى بيتي من ثمن حليبهما، ومن ثمن أولادهما اشتريت بقرة ثالثة فرابعة إلى أن أصبح العدد (6) بقرات والحمد لله رب العالمين فإن هذا القطيع المتواضع يحقق لي دخلاً جيداً..
كنّا نسمع من آبائنا وآجدادنا مقولة تقول (حبّة الحنطة تفتح بيتاً) ولم نكن نهتمّ كثيراً بهذه القناعة لعدم وعينا لها ولمدلولاتها لكن إن تمعّنا فيها نجدها حقيقةً تمتلك كل حجج الإقناع، فحبّة الحنطة تعطي أكثر من (20) حبّة والـ 20 حبة تعطي في الموسم التالي (400) حبة وفي الموسم الثالث هذه الـ 400 حبة تعطي (8000) حبة وكل ما هو مطلوب في مثل هذه البدايات الصعبة هو أن نمتلك الثقة فيما نحن ذاهبون إليه والصبر قبل أن نحسب ما جنيناه..
نعم حبّة الحنطة تصبح (8) آلاف حبّة بعد ثلاثة مواسم لكن هل نصبر عليها وهل نثق بهذه المعادلة التي لا تحتاج إلى إثبات لأنها من المسلمات..
قصص من هناك
بحكم عملنا الإعلامي فقد نسافر خارج القطر بمهمات عمل مختلفة ونجد ذلك فرصة للقاء زملاء الأمس الذين استجابوا للغربة ولإغراءاتها..
أبو علاء الذي التقيته في إربد بالأردن قال: ليتني لم أسافر خارج ضيعتي فقد كنتُ أوفّر هناك من عملي كخياط مثل ما أوفره هنا وربما أكثر، ولكن لم أكتشف هذه الحقيقة إلى أن عشتها على أرض الواقع، ولا أستطيع العودة لأنني تخلّيت عن المحل الذي كنت أستأجره، صحيح أنني أحقق دخلاً معقولاً ولكن أدفع الثمن بعدي عن زوجتي وأولادي ومع هذا فإن غربتي أسهل من غربة غيري بحكم قربي من سورية وبإمكاني زيارة الأهل كل شهر مرّة.
أما أبو ليث والذي كان يعمل حلاقاً في الإمارات العربية المتحدة فقد عاد من هناك بمبلغ جيد على حدّ تعبيره استطاع به أن يعود لفتح صالون حلاقة يعمل به حالياً..
أبو ليث تحدث عن مكاسب جيدة في بلدان الاغتراب ولكنه قال أيضاً إنه بشيء من التدبير يمكن للإنسان أن يحقق في بلده ما يحققه في غربته..
في شهر كانون الثاني الماضي كنتُ في قطر والتقيت هناك العديد من الشباب السوريين الذين يعملون هناك ومع أنهم يحققون دخلاً جيداً ويعملون في شركات نفطية أو مالية إلا أن قدرتهم على التوفير ليست كبيرة وبالتالي فإن ارتهانهم للغربة لم يحقق ما حلموا به في هذه الغربة حسب أقوالهم ولكن يصعب عليهم العودة دون رصيد جيد كما قالوا لنا ولهذا فهم مستمرون..
كلام الجدّ
لكل شيء في هذه الدنيا وجهان.. ننظر إلى أي مسألة فنرى فيها السلبي والإيجابي إذا ما وقفنا على الحياد منها، وقد لا نرى إلا الإيجابيات إذا كنّا متفائلين والسلبيات إذا كنا متشائمين..
نعود إلى الوظيفة الحكومية وإلى من يرى فيها الأمان الوحيد لمستقبله ونتابع ما تتخذه القيادة السورية الرشيدة من قرارات تهدف إلى استيعاب النسبة الأكبر من خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة فنجد فيها بارقة أمل تعزز تفاؤل الشباب بمستقبلهم هنا، إذ تحرص قيادتنا الحكيمة على توفير فرص عمل ومساعدة العاطلين عن العمل حتى أن الحكومة السورية تعهدت بدفع أجور المشتغلين لدى القطاع الخاص لمدة سنة كاملة إذا ما تعاقدت معهم لمدة خمس سنوات وهذه الحالة أعتقد أنها ليست موجودة خارج سورية..
هذا الكلام أعتقد انه يحمل معه الكثير من الوعود بمستقبل أفضل للشباب السوري يكونون فيه قادرين على تحقيق ذواتهم في وطنهم وبين أهلهم وأعتقد أن ذلك حلم الجميع..
لا ننكر على أحد حقه بالتفكير بالهجرة والبحث عن مصدر دخل جيد لكننا نتمنى أن تُستغل طاقات شبابنا بالشكل الأمثل فوق هذه الأرض الطيبة الخيّرة القادرة على استيعاب تطلعات جميع أبنائها وبشكل يعود بالفائدة على الجميع خاصة وأن شبابنا يمتلكون الكثير من مقومات الإبداع والتميّز ونحن أولى بأدمغتهم من غيرنا..
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة... وأهلي وإن ضنّوا علي كرام
الغد جميل جداً كما تقول مطالعه وبلد يقوده السيد الرئيس بشار الأسد لا بد وأنه قادر على احتضان كلّ الهمم المتوثبة لتحقيق ما تصبو إليه.
أتمنى أن تكون هجرتنا إلى أنفسنا فنعرفها جيداً ونوظّف طاقاتنا بالشكل الأمثل بدل أن تكون رحلتنا بحثاً عن ذاتنا بعيداً عن جذورنا..
ساحات العمل في سورية تعد بالكثير فهل يجيد شبابنا امتلاكها بالشكل الأمثل والتحرّك فيها بموضوعية وبإيجابية؟