ومنه كانت هذه الرؤية التي يقدمها، الأستاذ قباوة حول واقع اللغة العربية اليوم، ونشير هنا إلى أن ماطرحه الأستاذ هو جرس إنذار يجب أن نأخذ به فاللغة العربية حصن أمتنا، وحين تهدم الحصون لايبقى شيء أبداً.
ونشير أيضاً إلى أن سورية كعهدها دائماً، كانت وماتزال حارسة وناشرة لعبق الأمة ولغتها منذ أن كانت وإلى اليوم والغد، وماالصروح الثقافية والعلمية ومجمع اللغة العربية ولجنة التمكين للغة العربية إلا خير دليل على ذلك، و،كذلك ماصدر من مراسيم وقوانين تهتم باللغة وشأنها.
في يوم اللغة العربية نحتفي بها هوية ولغة وثقافة وانتماء، يقول د.قباوة متحدثاً عن الخطر الذي أحاق بلغتنا وماذا فعلت سورية لمواجهته.
لقد استشعرت القيادات العربية السورية في القرن الماضي هذه المسؤولية العظمى، فجعلت لعروبة اللسان مكانة الصدارة من العناية والاهتمام، إذ سعت في تعريب التعليم بجميع مراحله لتنزع منه مظاهر العامية والعجمة، وتوجهت إلى وسائل الإعلام والإعلان فزودتها برواد تقويم وسداد، ليحفظوا وجه العربية مشرقاً متألقاً بالفصاحة والبيان، ملتزمين فيما يبث أو ينشر أو يذاع أو يعلن أن يكون بالزي العربي الخالص، بعيداً عن كل لكنة أو هجنة أو فساد، ويمنعون مايخالف ذلك في كل مجال إعلاني أو إعلامي، ويساعدون البيئة على سلامة البنيان اللغوي، وصحة الممارسات التعبيرية.
ومن أجل ذلك جعلت للعربية في مراحل التعليم منزلة الصدارة من القيمة، تتحكم في تنقل الطلاب بين السنوات الدراسية ومستوياتها، ليكون في نفوس المعلمين والمدرسين والأساتذة والطلاب والأسر والأفراد مرتبة فائقة لسلامة اللسان والفكر والذوق والكتابة والبحث العلمي.
وإني لأذكر أنه في السبعينيات من القرن الماضي، منعت شركة صناعية في مدينة حلب أن تتخذ كلمة «كريستال» عنواناً لإنتاجها، وهي ذات صبغة أعجمية خالصة، كما ترى. وقد عرض عليّ ذلك حينئذ بشكل رسمي، فرأيت أن يجري فيه تعديل يدخله حيز التعريب في الصيغة والأداء.
وذلك بحذف مايعرقل الجنسية العربية منه، وتقويم التصويت فيه ليصير على غرار: قرسطال وطرماح وشقراق وحلبلاب وتكلام وسرطراط وكلمان، أي: بجعله على صورة« كريستال» صوتاً وبنية وأداء، ولما حمل ذلك إلى الأوصياء على عروبة اللسان أقروه، وسمحوا لأصحاب الشركة باتخاذه سمة لإنتاجهم، فكان له حضور واقعي مشهود.
وبذلك وأمثاله من التصرفات ، حطمت الإدارات السورية عقابيل الأسطورة الاستعمارية وباشرت بتعريب تلك المواد.
فكانت رائدة في التحرر التعليمي، ومسحت عن وجوهنا في هذا الميدان سمات الخنوع والمذلة والاستجداء. وكذلك فعلت بعض الأقطار الشقيقة، في قليل من المستويات الثانوية والجامعية، ثم تردد آخرون في الترجح بين العولمة والعوربة وكانت لديهم خطوات متعثرة وردت في كثير من الأحيان، ومابرحت أكثر الدول العربية تطلق على الشهادات التربوية والتعليمية أسماء أجنبية، كالليسنس والبكلوريوس والدبلوم والدكتوراة والماجستير، وفي ذلك مافيه من العار والداسائس اليهودية الخبيثة.
بل إن مانعانيه اليوم في سورية يمثل بعض الردة أيضاً ذلك أن الأستاتذة والمدرسين المتقنين للعربية فكراً، وتعبيراً وإبداعاً تناقص عددهم منذ أواخر القرن الماضي ، لأن الموفدين إلى الغرب والشرق لم يكونوا على ثقافة أصيلة وتمكن من المهارات اللغوية، فأجهضوا هناك بقايا مايحملون من ضعف وتهافت في البيان، وعادوا إلى الوطن عاجزين عن تمثل عروبة اللسان، أجانب في التفكير والتصور والأداء لفظاً وكتابة، فأنت ترى الآن في الكليات العلمية والإنسانية نماذج من التخليط بين العربية واللهجات العامية المحلية ولغات الأعاجم، في فرنسا وألمانيا وروسيا وإيطاليا وإسبانيا وإنكلترة وأمريكا واليابان..
وهكذا عادت أصباغ العبودية تسود وجه العروبة المشرق في سورية، لتزحزحها من مرتبة الريادة والصدارة، وتشوه ألسنة طلابنا وأذهانهم وأقلامهم، وكدنا نصير إلى مايعانيه أشقاؤنا من استعجام في تلك الأقطار المذكورة، بتصدير الجامعات والمعاهد والمدارس أخلاطاً من الجنسيات العالمية في العقول والإفهام والخطاب.
ولابد أن يتدارك المسؤولون هذه المخاطر في دنيا العرب، لينزعوا عنا أصفاد العولمية والانقياد للغزوات الحضارية، ويعيدوا إلى قلوبنا الشعور بقدرة لغتنا الحبيبة وكفايتها لتناول العلوم والفنون والآداب، وعملها في تلك الميادين بكل استيعاب وتفهم وتنمية وإغناء في الإنتاج والابتكار ومن ثم نرمم ماتداعى من الأسس التربوية التي تيسر الاعتزاز بالعربية وتشجع على إتقان مهاراتها المرجوة.
وكذلك مايعانيه الصرح الفكري المنكوب في البحث العلمي، فمناهج الدرس في جميع المستويات التربوية والتعليمية والإنتاجية هي مستوردة، بكامل المضامين والأساليب أصولاً وفروعاً ورموزاً ومصطلحات ومفاهيم، من مستهلكات الغرب والشرق ونحن نستجدي ذلك من مصادر مختلفة متباينة.
نلفق بين متناقضاته لنقيم مخابر ومصانع وبحوثاً ودراسات جامعية عليا، ثم نضيف إلى ذلك التلفيق الحضاري ترميمات مما استنفده الغزاة ورموه في سلال المهملات، لنجدد الأساليب والمناهج، من دون وعي عربي ذي شخصية علمية مستقلة تمارس البحث باعتداد وإغناء وابتكار. وفي هذا تكريس للهيمنة الغازية، وتثبيط للأسس التربوية التي تكون مهارات عروبة الفكر واللسان.
وعلى مرور السنوات في هذا المناخ الوافد الموبوء، زالت عن سورية تلك الريادة الكريمة وما كان من الرقابة الوفية، فعادت السمة المقررة هذه تترجح بين العروبة والهجنة على غير اهتمام وكذلك شأن كثير مما يطرق الآن اسماعنا وأعيننا وعواطفنا، في واقع الإعلام والإعلان والتعليم والتوجيه والوعظ من الوطن العربي، حتى إنك لتجد مجالس الحكم في التعليم العالي تناقش الأطاريح والرسائل بكثير من العبارات العامية أو الأعجمية وبذلك أصبح المرء الوفي لعروبته داخل وطنه، كما يقول المتنبي، غريب الوجه واليد واللسان.
إن تغلغل التعبير الأعجمي الهجين في مستويات الإعلام والإعلان وأنواعهما وفي قاعات التدريس والتعليم والفتوى والقضاء ومنابر المساجد والكنائس ومجالس الوعظ والإرشاد، مفردات وتراكيب ومصطلحات هو صورة من التعولم التلقائي وقبول الغزو الثقافي بطواعية ورضا جماعي، وفيه جرح لكرامة الأمة وإهانة للحكومات والقوانين والأنظمة والشعب والبلاد، إذ يشعر المواطنون في كل لحظة بدونية القوم والوطن والإنسان وبالتبعية و العبودية للثقافات والحضارات والصبوات الأجنبية، وينزع عنه ما يجب أن يتحلى به من الاعتزاز بقدسية العربية ووسائلها في التفكير والتعبير والتصوير، ويرسخ فيه تقبل ضروب الذلة والهوان في كل ميدان وقديماً قال أبو الطيب:
من يَهُن يسهلِ الهوانُ عليهِ
مالجرحِ، بميت إيلامُ
وبعد هذا، فليس عجيباً أنه صار يفسر القرآن الكريم أحد معاصرينا بالعامية المغرقة في المحلية، بملء من الناس على منابر المساجد والجوامع وأثير القنوات والإذاعات و ليشيع في فهم النص الكريم أساليب السوقة، ويكرر على الأسماع ما يسود في الشوارع والأزقة من عبارات شائهة ممجوجة ولقد نشر بعض تلك المجالس في كتيبات بين أيدي الناس، لتثبيت سلطان اللهجات وترسيخ جذورها في النفوس والأذواق والأقلام.
وكذلك ما نسمعه أن نشاهده أحياناً من تعليم للنحو وتجويد القرآن الكريم باللهجات العامية. فكيف يكون مثل هذا وذاك في ميادين الوعظ والتعليم؟ أأعجمي وعربي؟ إن هذا لأمر عجاب، ولعل أعجب من ذلك أن تشهد معي وتسمع، في ندوة لمعالجة الواقع اللغوي بإحدى جامعات القصيم تطاول المنتدين بعامياتهم المحلية، وهم يعتزون بمفاخر العربية ويبكون واقعها البائس وما تعانيه من ظلم الغزو الاستعماري البغيض والتهافت العربي القميء.
فلو أنك أحصيت ما يطرق سمع الإنسان ويصافح بصره، في هذه الأجواء العامة والخاصة المؤوفة لتبين لك أن الغالبية العظمى منه خليط من الهجنات المحلية، مطعم بلكنات أعجمية مختلفة المصادر والتوجهات، وهذا يعني أن الزاد اللغوي مشحون بما هو بعيد عن ساحات العروبة، يغذي الأجيال بوسائل التفكير والتعبير الاعتباطية تجترها فيما تمارس من ميادين حياتها المختلفة.
وإذا أراد أحد أبنائنا استعمال فصيح الكلام في بعض المواقف تلعثم وارتج عليه، وتساقط بين أحضان العاميات والأعجميات، فمن أين له استقامة البيان، إذا كان يمضي أعوامه الدراسية البضعة عشر أو العشرين، وهو يتلقى مختلف الغلطات اللغوية، وقل ولاتقل، وأغلاط الكتاب.. وبذلك أصبح في جواد طريق المتعلمين حجب ومنعطفات وأسوار ومتاريس ، اصطنعتها مذاهب نحوية أو لهجات محدودة فالسالك فيها كالساري في ظلمات بعضها فوق بعض، بين أسلاك شائكة ومناطق مزروعة بالألغام، حيثما توجه وأينما قصد يتوقع تفجراً بلغم أو تمزقاً بأشواك.
تراه حائراً عاجزاً عن الحركة فيما بين يديه، ومن حوله مغريات العامية وبهارج العجمة، بتيسير الخطاب وتعبيد قواعد التعبير والأداء،مع تسلط العولمة وزخارف اللغات الغازية بالأناقة والجاذبية وسحر الحضارةوضغوط الاستعلاء. فلاغرو أن تسود في نفسه معالم الاكتئاب والكف والإحباط، ليتنكب سبيل الخطر والامحاق وينساق إلى فسحة التلقائية المغمورة بالهجنة والاغتراب.
ولا أكتمك أيها الكريم أنه سألني بعض المدرسين والمعلمين غير مرة على استحياء: كيف نحبب اللغة العربية إلى الطلاب؟ وما أظن ولاتظن أنت معي أن أمة، مهما انحدرت في مهاوي السقوط والهوان، يطرح فيها مثل هذا السؤال عن واقع لغتها الوطنية أو القومية..