تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أفعالهم تفضح أفكارهم

شؤون سياسية
الأحد 3-3-2013
 د. عيسى الشماس

من يطابق بين ما قام به الإرهابيون / التكفيريون ، مؤخّراً ، في كلّ من سورية ومصر، يدرك بشكل قاطع طبيعة الفكر الظلامي الذي تحمله تلك العصابات ضدّ أصحاب العلم والفكر المستنير ؛ هذا الفكر الظلامي المتجسّد في الرجعيّة والتطرّف ، والتخلّف إلى أدنى حدود التخلّف الفكري والأخلاقي والإنساني ، ومحاولة تطبيقه على أرض الواقع .

فقبل أيام عدّة أقدمت مجموعة من تلك العصابات الإرهابية / التكفيرية في سورية ، على قطع رأس تمثال الشاعر الفيلسوف ( أبو العلاء المعرّي ) المنتصب في ساحة بلدته ( معرّة النعمان ) في شمالي سورية، منذ عشرات السنين، الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بشعره وحكمته وفلسفته ، التي جسّدها بنظرته إلى الإنسان والكون والموت والحياة ، وهو يتحدّاها بقوله : « ما مات كلّ الموت من عاش له اسم ».‏

وبالأمس القريب أقدمت العصابات النظيرة في مصر ، على قطع رأس تمثال الأديب الكبير، رائد الأدب العربي ( طه حسين ) الذي أقيم له تكريماً لعطاءاته المشهود لها في تاريخ الأدب العربي ، بحثاً ونقداً وتحقيقاً ، حيث كان من روّاد الأدب الحديث في العالم ،ممّا جعله عالماً يقتدى به، ليس في مصر فحسب ، بل في أرجاء الوطن العربي قاطبة . وها هو يتحدّى أصحاب الفكر الظلامي بقوله : ´الجهل حريق والحريق لا يقاوم بالماء المقطّر ..».‏

ولم يكتفوا بذلك ،بل اتبعوا فعلتهم النكراء بوضع الحجاب على رأس كوكب الشرق ( أم كلثوم ) ليحجبوا نور هذا الكوكب الذي ملأ العالم بالغناء العربي الأصيل ، وبمعانيه الوجدانية والإنسانية. فكانت أم كلثوم ملكة الغناء العربي ، وشكّلت مع ( محمد عبد الوهاب وفيروز ) ثلاثي الغناء العربي الذي سيبقى شاهداً على عمالقة هذا الفنّ إلى سنين مديدة .‏

ألا تذكّر هذه الأعمال بما قامت به عصابات ( القاعدة ) في أفغانستان ، عندما حطّمت تماثيل / بوا / الفيلسوف الروحاني الشهير ، منذ مئات السنين ، الذي قدّم للإنسانية منظومة من القيم الأخلاقية والإنسانيّة والروحيّة ، ما تزال قائمة تنظّم حياة ملايين الناس وعلاقاتهم ، على أسس ومبادىء العدالة والمساواة بين بني البشر . وتؤّكد هذه الأفعال الارتباط الوثيق بتنظيم القاعدة ، وبالتالي فإن الفكر واحد والممارسة واحدة ، تقوم على الحقد والنقمة على كلّ ما هو إنساني وحضاري .‏

ويتساءل المراقبون والمحلّلون : لماذا يقوم هؤلاء الإرهابيون / التكفيريون بأعمالهم اللاإنسانية تجاه رموز أعلام في الفلسفة والأدب والفنّ ، المشهورين في الأمة العربية والإسلاميّة ، وأيضاً في العالم أجمع ؟ وكأنّ هؤلاء الإرهابيين عندما فشلوا في الاعتداء على العلماء الأحياء ، راحوا يفجّرون حقدهم بالاعتداء على حرمات الأموات من خلال العبث بتماثيلهم . أليست هذه الأفعال تخالف الشرائع السماوية ، وفي مقدّمتها الشريعة الإسلاميّة التي يزعمون أنّهم حماتها والمبشرون بها ؟ فهل الإسلام ضدّ العلم والفن « وعلّم الإنسان ما لم يعلم » ؟ وهل نشر الجهل والتخلّف يسهم في تعزيز قيم الإسلام وحضارته ، وينسون قوله تعالى « ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » ؟ .‏

إنّهم يريدون بأفكارهم وأفعالهم هذه ، طمس الحقائق الجوهرية لكل ما له علاقة بالفكر التحرّري ، المنفتح على الآخر لحواره والعيش المشترك معه ،كما دعا إليه الإسلام الأصيل ، وكان من نتيجته ظهور العديد من العلماء والأدباء والفلاسفة ، من أمثال : (محي الدين العربي ، وأبو حيان التوحيدي ، ابن خلدون الذي قال :« إذا لم يكن للأمّة تاريخ ناطق وأثر باق فلا تدوم سلطتها » ، الفارابي ، ابن سينا ، البيروني ) ، وصولاً إلى ( أبو العلاء المعري والمتنبّي، وطه حسين وقاسم أمين الذي قال : « الوطنيّة تعمل ولا تتكلّم ..»، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو الذي قال : « الحقّ لا يظهر إلاّ إذا بلغ الباطل آخر حدّه ..». ) وغيرهم الكثير ممّن أبدعوا في الحضارة العربية والإسلاميّة، وما زالت علومهم وأفكارهم تدرّس في أرقى المؤسّسات التربوية ، التعليميّة في العالم.‏

وفي مقابل هذه العلوم والفنون المعرفية الحضارية المختلفة ، يريد أصحاب الفكر التكفيري أن ينشروا في الأمّة العربية حالة من التقوقع والانغلاق والتخلّف ، وكلّ ما يعيد هذه الأمة إلى عصور الجهل والظلام ، في عصر تتسابق فيه شعوب الأرض على أخذ موقع متقدّم يواكب التغيّرات العلميّة / الحضارية المتجدّدة في مجالات الحياة كافة . فهل هذه الأفكار التي ينادون بها ، وهذه الأفعال النكراء التي يقومون بها ، تندرج في مضمونات التعاليم التي أهداها الإسلام إلى البشرية في الحرية ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) والديمقراطيّة والعدالة الإنسانية (الناس سواسية كأسنان المشط ) ؟ وهل هذه الأفكار تخدم تعزيز الإسلام كدين المحبّة والتسامح ( لا إكراه في الدين ) وبالتالي أليس الدين لله والوطن للجميع .‏

فلينظر أصحاب نظرية ما سمي زوراً بـ( الربيع العربي ) ، كيف حوّل دعاته وأدواته معنى الربيع المتجدّد المزدهر ، المتفجّر في ينابيع الخصب والعطاء ، إلى اليباب والخراب، والعمل على تجفيف ينابيع العلم والمعرفة ، والقضاء على مواطن الخصب والعطاء والتقدّم التي أبدعتها الحضارة العربية والإسلامية ، والتي عليها أن تعيد إنتاجها في مواجهة الحضارة العولمية . فثمّة محاولات جرت من قبل أصحاب الفكر المنغلق ، ولم تنجح ، لأنّ الأمة العربية معروفة برسالتها الإنسانية / الحضارية المتجدّدة ، ولم تكن يوماً منغلقة على ذاتها ، بل كانت تتفاعل مع الحضارات البشرية ، تأخذ منها وتعطيها من إبداعاتها بما يخدم أبناء البشرية جمعاء . فلم تكن في هذه الأمة ، ولن تكون ، تربة صالحة لزرع هذه الأفكار الظلامية / السوداء . ومهما حاولوا فلم تنبت ، لأنّ بذورها تالفة ومتعفّنة، ولا حياة لها إلاّ في عقولهم ونفوسهم .‏

وليس لهم إلاّ قول اللّه تعالى : « سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ..» والله يمهل ولا يهمل..!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية