رأى المركز السوري لبحوث الرأي العام ( الحكومي ) أن مصرف سورية المركزي قد تأخّر في إجراءاته الاستباقية التي كان من المفترض أن يتخذها من أجل الوقاية من تدهور محتمل في قيمة الليرة السورية التي جرى الحديث عنها مع بداية الأحداث في سورية، غير أن إجراءات المركزي جاءت متأخرة ومتخبطة دون دراسة مسبقة لآثارها ودون تجهيز البيئة المستقبلية لها والتي من شأنها تفريغ أي إجراء من محتواه.
ورصد المركز أنه في بدايات الأزمة وبداية انخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار كان الحديث يدور حول تعزيز الثقة بالليرة حيث كان الاقتصاد السوري يعاني من الشائعات و بالتالي عانت الليرة من أزمة ثقة، بينما كان على البنك المركزي في هذه المرحلة تعزيز الثقة بالليرة من خلال إجراءات الإقناع الأدبي بالإضافة إلى إجراءات تجهيز البيئة المستقبلية لأي تدخل محتمل.
ورأى المركز أن من الإجراءات التي كان يمكن اتخاذها وقف عمل شركات الصرافة لأنها كانت المكان الذي تتم فيه المضاربة على العملة بالإضافة- كما ثبت لاحقاً- أنها الشريان المغذي للسوق السوداء أو صلة الوصل بين البنك المركزي أو سوق القطع النظامية والسوق السوداء، فوقف عمل هذه المكاتب كان وما زال مجديا بغية وقف استنزاف الاحتياطيات.
وكذلك وقف تمويل المستوردات من خلال البنك المركزي، فليس من عمل المصرف المركزي تمويل الواردات وخاصة وفق الآلية المتبعة حيث أن المستورد المستفيد من القطع يستغل فروقات الأسعار بين السوق النظامية والسوداء لتحقيق أرباح إضافية، ولكن وعوضاً عن ذلك اتخذت الحكومة قراراً بوقف الاستيراد وتراجعت عنه فكانت النتيجة ارتفاع مستويات الأسعار بصورة غير مسبوقة.
كان لهذين الاجراءين – حسب المركز ذاته – أثر كبير في تجهيز البيئة اللازمة لتدخل البنك المركزي لاحقاً، وبدلاً من ذلك بدأ البنك المركزي بالتدخل الكثيف في سوق الصرف من خلال عدة إجراءات لم تكن ذات جدوى خاصة بعد المزادات المتتالية التي أجراها وتم من خلالها تمويل السوق السوداء بواسطة مكاتب القطع.
واعتبر مركز بحوث الرأي العام أنَّ البنك المركزي نسي في هذه المرحلة أن السياسة الوحيدة المجدية للدفاع عن سعر الصرف تتمثل في رفع أسعار الفائدة لأن الاعتماد على الاحتياطيات الرسمية للقطع لم يعد كافياً ولا قادرا على تثبيت سعر الصرف نظراً لوجود الاسفنجة المتمثلة بالسوق السوداء والتي امتصت كل ما طرحة البنك المركزي من دولارات.
ونتيجة التدخلات المتلاحقة من البنك المركزي دون توفير البيئة اللازمة انهارت الثقة بالبنك المركزي نفسه وفقد مصداقيته وقدرته على التحكم بالليرة السورية، حيث بدا عاجزاً – حسب المركز – عن التحكم بالليرة وبسعر القطع، فانتقلنا من أزمة ثقة إلى أزمة مصداقية.
أدرك البنك المركزي في تلك اللحظات عجزه عن التحكم بالليرة فسارع إلى قراره بتعويم العملة والتي رأينا فيه هروبا من مسؤولية تدهور الليرة لاحقاً، المشكلة بعد هذا القرار أن معدلات هبوط الليرة أخذت بالتزايد سواء تم تنفيذ القرار أم لا فان هامش المخاطرة انتقل من نصف ليرة إلى ليرة واحدة ثم إلى ثلاث ليرات و خمس وعشر لاحقاً حيث لاحظنا قيام الدولار بقفزات لم تعتد الليرة السورية عليها، بالإضافة إلى ذلك كانت تصريحات البنك المركزي غير مدروسة ومحدثة للاضطرابات في الأسواق حيث هدد البنك المركزي المضاربين بالتدخل في السوق ورغم ارتفاع وتيرة المضاربة لم ينفذ هذا التهديد بل ظل متفرجاً عما سيؤول إليه حال الليرة السورية، إذاً الخطر اليوم ليس ارتفاع أسعار الدولار بل بوتيرة هذا الارتفاع .
وحسب المركز فإن الاقتصاد السوري يعاني اليوم من: تدهور الثقة بالليرة، وفقدان المركزي لمصداقيته وقدرته على التحكم بسعر الصرف، وارتفاع وتيرة انخفاض قيمة الليرة، وارتفاع معدلات أسعار السلع والخدمات المحلية والمستوردة (ارتفاع معدلات التضخم) بل قيام معدلات التضخم بقفزات مشابهة لقفزات انخفاض الليرة وهذا التضخم ليس ناجماً عن ارتفاع في الطلب بل هو تضخم نقدي ناجم عن انخفاض قيمة الليرة.
ويرى المركز أنه نتيجة هذا الانخفاض الكبير في قيمة الليرة وارتفاع معدلات التضخم النقدي انخفضت الدخول الحقيقية وتوسعت الفجوة بين الدخول والأسعار ما أدى إلى تخفيض معدلات الاستهلاك والاستثمار وارتفاع العجز في الميزان التجاري وبالتالي جمود الاقتصاد الحقيقي وانخفاض مستوى الدخل القومي والعمالة.
ورأى المركز أن المطلوب اليوم يتمثل في تعزيز مصداقية السلطة النقدية من خلال تشكيل مجلس خبراء (خبراء فقط) يتمتعون بالخبرة والمصداقية والنزاهة لقيادة السياسية النقدية في سورية ، كما أن الشفافية في عمل السلطات النقدية مطلوبة وكذلك تعزيز استقلالية السلطة النقدية، وحصر التصريحات المتعلقة بالأمور النقدية بيد السلطات النقدية وعدم تجاوز صلاحياتها فليس من المعقول أن يقوم رئيس جمعية الصاغة بتقديم تصريحات عن تغير العملة وبث الرعب في نفوس المواطنين عن مستقبل العملة·.! فلابد من دراسة وافية لأي تصريح تقوم به السلطة النقدية قبل الإدلاء به بحيث تكون السلطة النقدية قادرة على تنفيذ تصريحاتها و ليس مجرد التهديد بها.
ودعم المركز فكرة وقف عمل شركات الصرافة فورا ودون تباطؤ وإسناد مهمة تداول القطع إلى المصارف الحكومية حصراً، وتبني سياسة استهداف التضخم من قبل السلطة النقدية والتركيز على الأهداف الداخلية نظرا لتنازع الأهداف الداخلية (استقرار مستويات الأسعار) والأهداف الخارجية ( استقرار أسعار الصرف) في هذه الآونة مما يجعل من سعر الفائدة الأداة الرئيسة للسياسة النقدية و تحريك أسعار الفائدة بما ينسجم مع علاقة تايلور المحددة لسعر الفائدة، واللجوء إلى وسائل مالية متممة كمعدلات الاحتياطي الإلزامي ومن خلال سياسة مالية داعمة ومتعاضدة مع سياسة معدلات الفائدة، وعبر هذه السياسة يستطيع البنك المركزي – حسب المركز – التحكم مباشرة بمعدلات التضخم و بشكل غير مباشر بأسعار الصرف.
إنَّ سياسة القطاع المالي في تحديد نسب الفوائد والإيداع والإقراض يجب أن تكون - في الفترة الراهنة- أكثر حذراً وفاعلية، ولا تنحصر في تشجيع الإيداع عن طريق رفع أسعار الفائدة إنما يجب العمل على خلق الثقة ودعم المصارف في منح القروض التنموية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة وقروض التصدير وأي نشاط اقتصادي من شأنه تحريك السوق الداخلية والخارجية فضلاً عن تحريض الطلب ودعم العرض إذ لا يمكن أن يكون هناك إجراء وحيد كرفع سعر الفائدة بالرغم من أنه إجراء سليم لجهة جذب الإيداعات لكنه في الوقت ذاته ذو منعكس سلبي على صعيد رفع تكلفة المصارف في منح القروض ولاسيما أن الحالات الاستثنائية تتطلب تدخلاً من قبل الجهات الحكومية ترفع الفرق مابين الفائدة المدينة والدائنة بحيث تكون معدلات الفوائد جاذبة للإيداعات ومحفزة للاقتراض.
وشجع المركز على اعتماد سياسة تثبيت الأسعار و جعل تغيراتها مرهونة بتغيرات الكلفة الحقيقية و تفعيل إجراءات الرقابة على الأسعار وتدخل الحكومة المباشر لضبط الأسعار وتقييد تحركاتها، إضافة إلى العمل مع الحكومة على تعزيز الثقة بالليرة فجميع أعضاء الحكومة مسؤولون عن تحقيق استقرار الليرة من خلال دراسة أي قرار دراسة وافية قبل إصداره، و عدم التخبط في القرارات المصدرة.
وطالب بالعودة للتركيز على القطاعات الحقيقية (الزراعة و الصناعة) باعتبارها قاطرة النمو وليس التجارة وتقديم التسهيلات، لخلق قاعدة حقيقية للاقتصاد السوري وتعزيز سياسة الاعتماد على الذات.