تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تدوير الزوايا الحادة.. في مديح الاختلاف

ملحق ثقافي
الثلاثاء 20/2/2007
روز ياسين حسن

لطالما حاولت مقولات الثورة الألسنية في القرن العشرين، من سوسير وويتغنشتاين إلى النظرية الأدبية المعاصرة، جعلنا نقتنع أن المعنى ليس شيئاً تعبّر عنه اللغة أو تعكسه، إنما هو فعلياً شيء تنتجه اللغة. على هذا، وبناء على تلك المقولات، فالمتسلّط على اللغة متسلّط على المعنى، ينتجه على هواه وديدنه.

والأهم أنه ينتجه حسب مقولاته التي يدفع بها ويكرّسها بالكتابة/ اللغة. هذا ما فعلته بالضبط السلطة البطريركية (الذكورية)، على مرّ التاريخ، تاريخ الكتابة، حين عملت على إنتاج المعنى، بتحكمها المطلق بدفة الكتابة. طبعاً ليس بخافٍ على مطّلع أن الكتابة (البطريركية) ليست مقتصرة على الرجل فحسب، فلطالما ساهمت الأقلام النسائية، الرازحة تحت ثقل السطوة البطريركية، بتعميق تلك الكتابة وعلى مرّ التاريخ أيضاً. كل ذلك جعل من تفعيل كتابة الهامش ضرورة لا بديل عنها، وجعلها أيضاً من أهم الصرخات التي أطلقتها مدارس ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، صيحات تدعونا كي نستمع إلى كل صوت سبق وأجبر على الصمت، أن نستمع إلى الهامش بكل أطيافه المتفاوتة عرقياً وأقوامياً وطبقياً وجنسانياً.‏

جاء تكريس الكتابة النسوية باعتبارها من أهم كتابات الهامش. وأقصد بالنسوية (في الكتابة) كمصطلح يعنى بالكتابة ضد السلطة والثابت والمغلق، أي إنها كتابة تتنصر للهامشي والبري والمنفتح، سواء أكان كاتبها رجل أو كاتبتها امرأة. لكن وباعتبار أن المرأة، كجنس، حُرمت على مرّ الوقت من إجهار رأيها وصوتها كمخلوق (ضعيف)!، فقد كانت كتابة المرأة من أوائل كتابات الهامش حاجة للإجهار. وهذا ما أطلق عليه اصطلاحاً الكتابة النسائية. باعتقادي أن الكتابة، كفعل ثقافي، جزء لا يتجزأ من الممارسة الفاعلة للمرأة، باعتبارها محاولة لإعادة كتابة التاريخ بعيون مغايرة، بقلم مغاير: قلم أنثى. على هذا سنعرف، من خلال الكتابة النسائية، وجهات نظر جديدة لم نقرأها بعد، وسنتحسس بناء على ذلك لغة جديدة لم تكتب بعد، لغة أنثى كان آخر همّ للتاريخ أن يسمعها أو يدوّن بها. ليست وجهة النظر القديمة، حيث سجنت الكتابة النسائية في مواضيع محددة ولغة ساذجة، بل وجهة النظر الراسخة والعميقة في كل شيء، ابتداء بالدهشة والحب، وليس انتهاء بالحرب ونظام الكون.‏

وكي نكون منصفين أستطيع استعارة مقولة إلين شوولتر (إحدى أهم رائدات النقد النسوي الأنكلوساكسوني): "ليست المشكلة أن اللغة لا تكفي للتعبير عن الوعي الإنساني، لكنها في كون النساء حرمن من استعمال كامل المصادر اللغوية، وأرغمن على الصمت، أو على التلطف أو على الإطناب في التعبير". هذه الجملة ستكون صدى لكثير من مدارس النقد النسوي التي نشأت في أوروبا وأميركا، كتجلٍ لما بعد الحداثة، ولالتفات العالم إلى الهامشيين، ومن ضمنهم المرأة، لتظهر مقولات تأنيث الكتابة وتأنيث العلم وتأنيث العالم وهلمجرا... الكتابة، باعتبارها سفراً لتدوين العالم أو لإعادة إنتاجه من جديد، فقد كانت عصيّة دوماً على النساء. إذ، كما قلت، عانت الكتابة النسائية سابقاً من وضوح الذات العالي ووجود الأنا المهيمن. أي أن المرسل، حسب تعبير النقاد البنيويين، كان حاضراً بشكل مستفز حقاً.‏

كما أن مواضيع الكتابة النسائية، كما لغتها، كانت هشة بالغة السذاجة، ومعدة سلفاً لمجموعة من الخيارات التي لا تحيد عنها، وإن حاولت أن تحيد فالويل لها. سيكون مصيرها وقتذاك كمصير الروائية الإنكليزية إميلي برونتي (صاحبة الرواية الشهيرة :"مرتفعات وذرينغ")، والتي اتهمت بأنوثتها، جواز مرورها الوحيد وهويتها في عالم الإنسان، حين لم يكن ثمة انتماء آخر وقتئذ لامرأة إلا كونها امرأة. ذلك أن النقاد البطريركيين لم يقتنعوا أنه يمكن لامرأة أن تكتب رواية متماسكة بهذا الشكل. إذاً لابد أن تكون رجلاً!! في زمن لاحق دفعت الكثيرات من الكاتبات العربيات أثماناً باهظة للأسباب نفسها، أي محاولاتهن للدخول إلى عالم الكتابة. ابتدأت الأثمان باتهام مي زيادة بالجنون، ولم تنتهِ بانتحار درية شفيق. مروراً بعزلة ماري عجمي وعائشة التيمورية، وموت باحثة البادية شابة مضطربة الأعصاب، وهلمجراً... هذا الأمر عبّرت عنه الكاتبة المصرية نعمات البحيري بشكل أراه جميلاً ودقيقاً. فبعد نشر إحدى قصصها الجريئة وجدت الساعي، الذي يدفع لها بدفتر التوقيع صباحاً، يفتح لها أزرار بنطاله، ليكشف منطقته مستعرضاً. علّقت نعمات البحيري أن حزنها سرعان ما تبدد إلى راحة "لأني جعلت الساعي يقرأ لي قصة.. اليوم أساء فهمي، ربما لن يسيء في الغد". ستمر فترة طويلة، باعتقادي، قبل أن تستطيع النساء امتلاك وظيفة الكتابة: وظيفة الكتابة هي تحريض الأسئلة، تحريض القارئ على إعادة الإنتاج الفكري والثقافي، وتحريض الجمال الكامن في نفس القارئ. وباعتبار أن القارئ هو جزء لا يتجزأ من منظومة الكتابة، بل إنه أحد أهم أركانها، فإنه سيحمل كل إرث البطريركية الكتابية في دماغه. وصدى الكتابة، النتيجة الأهم، هي ترددات على جدران وعي ذاك القارئ. نقاد الحداثة كانوا يعدون القارئ المثالي لعمل ما: الشخص الذي يملك في متناوله وتصرفه كل السنن التي تجعل العمل مفهوماً بصورة شاملة. أي أن القارئ، حسب رؤيتهم، يجب أن يكون فاعلاً فلا يقوم، حين القراءة، بشيء ممل ورتيب كما هو فعلاً. هي فكرة: السوبر قارئ إذاً، ذاك الذي يجب أن يكون بلا دولة، أو طبقة، أو جنس. متحرر من أية خصائص أقوامية (إثنية)، أو افتراضات ثقافية مقيدة، أو سلطات خارجية خارج وعيه الذاتي. وعلى هذا فالقارئ العربي المثالي هو تصور وهمي. وحقيقة، حسب قناعتي، فإن أحكام الكفاءة لديه، أي الأحكام التي يطلقها على الكتابة والكاتب، نسبية ثقافياً وإيديولوجياً، وكل قراءة لديه تشمل على تحريك افتراضات خارج- أدبية. يصطدم النص العربي النسائي، كما يصطدم أي فعل عربي نسائي آخر، بقارئ ومشاهد ومراقب يحمل كل ما قد يوصف بالقراءة الخاطئة. القراءة الخاطئة للتجربة النسائية بالعموم. تلك التي تجعل قارئاً ما ينظر إلى كتابات المرأة، مثلاً، باعتبارها جزءاً من سلوكها الاجتماعي. بمعنى المماهاة بين نص الكاتبة وشخصها. وكل خبرة لأبطالها تحال إلى خبرتها الشخصية وتجاربها. سيبدو الأمر مفهوماً أكثر حين نتذكر أن نشاط المرأة اقتصر منذ فجر التاريخ على مجموعة مهام أنيطت بها، فإن شذّت عنها فهي في حكم الموؤودة اجتماعياً. خصوصاً إذا كانت فاعلية المرأة تتعلق بشكل من الأشكال بالمسلة التي تنخز جنب المراقب الشرقي، أي أحد التابويات الثلاثة: السياسة أو الدين أو الجنس. ثم بناء على وهم المساواة، يقوم بتحويل المرأة إلى كائن ملتبس الجنس، فلاهي امرأة ولا هي رجل. ستحاكم، إذا نظر إليها بعين الرأفة، بأن إنتاجها إنساني (ملتبس أيضاً ودون أية خصوصية). وما عدا ذلك، فسيحاكم إنتاجها، إذا وضع في خانة النسوي، باعتباره دونياً، ولديه مواضيع محددة ومجهزة سلفاً يتطرق إليها، وخارج التصنيف الرفيع للإنتاج (الإنساني)!!!. وهنا سيتضخم العجز عن قبول الآخر، أي ستبدو المعضلة العربية مع الاختلاف عارية ومكشوفة، وبأننا لا نستطيع أن نقبل تعدد الأصوات، اختلافها، وتباينها الذي يخلق التنوع الجميل. وهذا باعتقادي أحد أسباب الفكرة القائلة: أنا ضد الأدب النسائي. هذه المشكلة الحقيقية ستتكرس بالتوازي مع مشكلة أخرى وهي جهل القارئ العربي عموماً بالمصطلحات. فنحن لا نعرف من المصطلحات إلا أسماءها، ولا ندري كيفية نشأتها وظروف تشكلها. ولأنها لا تأتي إلينا إلا معلبة كأية مادة مستوردة، وعلى ظهر سلحفاة عجوز منهكة، سيكون السؤال المعتاد حدّ الملل حين يتكلم أحدهم/ أو إحداهن عن الأدب النسائي: وهل هناك أدب رجالي وأدب نسائي؟!! بعضهم يسأله باستنكار، والبعض الآخر بابتسامة ساخرة، والأكثرية بنظرة احتقار. لا أعرف متى سنقتنع أن الأدب النسوي ليس إقامة معتزلات أدبية رجالية- نسائية، ولا تكريس فلكلور للبنى والصور والعلاقات والشخصيات الإبداعية النسائية. إنما هو أدب هامش في مواجهة أدب مجتمع سائد، والأدب (الرجالي)، الذي يوضع بشكل أوتوماتيكي في مواجهة الأدب النسوي حال ذكره، هو بالأحرى أدب المنظومة البطريركية المطلقة والمتسلطة. المشكلة الأساسية برأيي تكمن في أن الكاتبات العربيات، اللواتي من المفترض أن يكنّ من أكثر المدافعات عن تفرد إبداعهن، وبأن يكن من أشد المقتنعات بأن الأدب النسائي ليس أدب الثرثرة ولا النق ولا النم ولا الشكوى، يصبحن من أشد المقاتلات ضده. في العام 1978 قال جورج طرابيشي في كتابه: الأدب من الداخل، "أن قوة البناء هي المطلب الفني الأول في رواية الرجل، فيما تستمد جمالية كتابة المرأة من غنى العواطف وزخم الأحاسيس". وكأن كتابة المرأة هي عبارة عن أغنية عاطفية ترددها المراهقات الولهانات وهن يغسلن الصحون. أما الأمر الذي لم أستطع فهمه أن تقول كاتبة، كهدى بركات، في حوار أجراه معها محمود الورداني في أخبار الأدب عام 1996: "أنا كاتبة أكتب مثل الرجال، بل أن كتاباتي (ضد نسوية)... رواية أهل الهوى مثلاً وحجر الضحك كتبتهما للدفاع عن قضايا أقرب لأن تكون قضايا رجال". هنا تكمن المشكلة، أن تعتبر روائية كهدى بركات أن هناك قضايا للرجال وقضايا أخرى للنساء، وليس وجهة نظر نسائية وأخرى رجالية. كان المصطلح هنا، كما قلت آنفاً، بمثابة تهمة تحاول بعضهن درأها بتبني وجهة النظر الأقوى. الأمر عبرت عنه الكاتبة المغربية رشيدة بن مسعود بشكل واضح في كتابها "المرأة والكتابة"، حين قالت: "أن الغموض الذي ينسحب على وجهات النظر المقدمة لمفهوم مصطلح أدب نسائي آت من عدم تحديد وتعريف كلمة نسائي، التي تحمل دلالات مشحونة بالمفهوم الحريمي الاحتقاري. وهذا ما يدفع المبدعات للنفور منه على حساب هويتهن، فيسقطن بسبب ذلك في استيلاب الفهم الذكوري". وإذا كان الغرب، مصنع المصطلحات وأرض التفاعلات، قد قطع شوطاً كبيراً على هذا الصعيد، فإن النقد العربي والذائقة العربية ما زالت بعيدة جداً عن الاعتراف بها. وأعتقد أن أمام الكاتبة العربية أشواطاً كبيرة لتثبت خروجها من الحريم، لتثبت حقها في الصوت، في الفاعلية، في الاختلاف الجميل، وأن باستطاعتها أن تكون موجودة وقد دخلت أتون الكتابة بعيداً عن المواضيع السابقة التي سجنت فيها. ثمة فكرة معروفة في فلسفة الخطوط والعمارة: أن الخطوط المنكسرة والزوايا الحادة هي عموماً مذكرة، فيما الخطوط المنحنية والزوايا المدورة هي مؤنثة. كم سيبدو الكون والفن والحياة برمتها مملة وفقيرة بتكريس أحد الشكلين فحسب. وكم نعمل على إفقار الكتابة حين نجعلها مرتعاً للزوايا والخطوط المنكسرة لا غير، فيما سنساهم، حسب اعتقادي، بفتح فضاءات واسعة إذا جاهدنا لتدوير تلك الزوايا الحادة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية