|
القواعدُ النحويّة تيسير أم تعجيز؟ ملحق ثقافي
وعلى الرغم من تكرم بعض المؤلفين بإضافة عبارة هذا شاذ، وهذا لا يقاس عليه، وتلك عبارة أو قاعدة يستحسن الابتعاد عنها وعدم استعمالها لندرتها وخشونتها. مع ذلك تجد أسئلة الامتحانات قد ركّزت عليها، وجعلتها مسبار اختبار تنغّص على الطالب ما تعب واجتهد من أجله، عن طريق استنباش ما مات من مثيلها لوضعه فوق مائدة عسيرة الهضم على طاعمها، مائدةٍ سَمّوها اختبارًا. وبالرغم من أنّهم يرون ما فيها من عجزٍ عن تلبية غايتها اللغويّة، وضعفٍ في تركيبها، وركاكةٍ في معناها، إلا أنّهم لا يجرؤون على حذفها أو إلغائها نهائيا من فهارس النحو. من منطلق الحفاظ على التراث النحوي، حتى ولو كان هذا التراث، مغايرا للقاعدة العامة أحيانا أو مناقضا للمنطق أحيانا أخرى، صادّا للذوق والعمل الفني. فما الذي يعنيه أن نظل نحشر في كتبنا، ونحشو عقول طلابنا بدروس كالتنازع، والاشتغال، والممنوع من الصرف وغيره من الدروس التي تمجّ منها النفس ، ويرتعد منها المعنى. وما الذي نبغيه من تجويز ما هو خارج عن المألوف فإذا بالفعل اللازم يَنصِبُ على شبه المفعولية، وإذا بالفاعل يتقدم على معموله ويظلُّ فاعلا. وإذا بالفاعل يطلّ برأسه بلا فعل فيتنطّح نحوي ليقدّر هذا الفعل تقديرا ليبقي الاسم فاعلاً، وللدخول إلى قلب البحث سأورد مثالا على كلٍّ منهما قبل الخوض في ماهية البحث عامة. فالأول ما جاء في كتاب الدكتور عاصم بيطار " قواعد اللغة العربية " فيما سمّاه بـ (شبه المفعولية ) إذ قال:" قد يُنْصَبُ الاسم على شبه المفعولية بعد الصفة المشبهة نحو" زيدٌ حسنٌ خُلُقَهُ " فنصب ( خلقَه ) والأجدر أن ترفع على الفاعلية لأنّ الصفة المشبهة تؤخذ من الفعل اللازم كما يشير هو نفسه في الهامش، ويقول بأنّ سبب النصب هو إسناد الصفة المشبهة إلى الضمير، ونصب المرفوع الذي من حقه أن يكون فاعلا ( زيدٌ حسنٌ خُلُقُهُ ) على شبه المفعولية. لماذا كل هذه الفذلكة النحوية، ولماذا نسند معمول الفعل للضمير مادام من حقه رفع ما بعده، ألا يجدر بمثل هذه القاعدة أن تحذف ويُمنع تعليمها. خاصّة وأنّها لا يفتأ أساتذة النحو في جامعاتنا يضعونها في سلم أولويات امتحاناتهم؟. والثاني ما استدلوا به من قول الزباء في البيت الشعري التالي، فاختلفوا في إعرابه، مما أفرد منه أكثر من ثلاثة احتمالات : ما للجمال مشيُها وئيـدا أجندلا يحملن أم حديدا فأجاز الكوفيون إعراب مشيُها : فاعل مقدم للصفة المشبهة وئيدا. بينما القاعدة العامة تَمنع تقدم الفاعل على عامله فتقول: ( إذا تقدم الفاعل على عامله أعرب مبتدأ) وإذا به هنا فاعل. مع العلم أنهم يشيرون بأن هذا التقديم شاذٌّ لا يقاس عليه. ويأتي آخر ليقول: بل هي منصوبة (مشيَها) وتعرب مفعولا مطلقا حذف عامله بتقدير ( تمشي مشيَها). ثم يأتي ثالث ليجتهد قائلاً: لا بل هي بدل اشتمال مجرور من ( للجمالِ ). فإذا بالزباء وهي المشكوك بكثير من أخبارها تستطيع أن تشغل بال واضعي النحو بعد ذلك، والذين بدورهم رموا أحمالهم على الطلاب، يثقلون كواهلهم بما لم يجدوا له تفسيرا دقيقا ومقنعا، وليس به فائدة أو منفعة أكثر من قضمٍ للوقت. وانطلاقا من هذا الأمر أرى أن هناك العديد العديد من القواعد النحوية التي مازال نحاتنا يتشبّثون بها لتبقى على قيد الحياة، في الوقت الذي شذت فيه على القواعد العامّة، وأخذت تلفظ أنفاسها مع تطور الزمن، فلا نجد أحيانا كثيرة غير مثال واحد يتكرر عبر الزمن، يُعتدُّ به، ولا يؤتى بغيره، فقط لأنّه ورد في عصر السليقة، أو من قراءة ما لنصٍّ قرآني، دون وضع احتمال أن يكون هذا الشاعر قد ألحن أو أقوى أو خانته سليقته. وأنّ هذا القارئ قد قرأ خطأ أو سبقه السيف العذل فلفظ على غير ما يعرف. من هذه النقاط سيكون منطلق بحثي الذي قد يطول ليشمل جميع ما شذ، وما اعتمد خلافا للقاعدة، أو ما جوّز انطلاقا من بيت شعري ما، أو قراءة نصّية ما. ففي مبحث الفاعل نجد إلى جانب ما سبق عن ( مشيُها ) عنوانا يتحدّث عن حذف الفعل وبقاء الفاعل،ومن المعروف أن لا فاعل بلا فعل ولا فعل بلا فاعل،ولا نجد هنا إلا مثالا واحدًا هو قول الشاعر: تجلّدت حتى قيل : لَم يعرُ قلبَه من الوجدِ شيءٌ، قلتُ: بل أعظمُ الوجدِ. حيثُ قدّروا كلمة ( أعظَمُ ) فاعلا لفعل محذوف مقدّر هو ( عراه ) ولا أظنُّه إلاّ ضعفًا من الشاعر حين لم يجد سوى هذا التركيب ليستقيم وزنه، فرفع كلمة ( أعظمُ ) حين أعجزه ذلك عن ذكر الفعل. ولا أحسبُه أراده فاعلا ولكنْ أتاه مَن يستر عجزه فيخرّجُها له، بأنها فاعل لفعل محذوف مقدّر والأجدر أن تعرب خبرا لمبتدأ محذوف خاصة وأنها وردت بعد حرف إضراب ( بل ) فتكون أكثر وضوحا وبيانا. وكذلك ما الغاية من إعراب الاسم الواقع بعد إذا أو إن فاعلا لفعل محذوف يفسره ما بعده، في الوقت الذي يمكن إعرابه مبتدأ والجملة بعده خبر وتكون أكثر جمالا ووضوحا كما في قول الشاعر: إذا المرءُ لَم يدنس من اللؤم عرضه فكـلُّ رداء يرتديـه جميـلُ ففي التخريج الأول ( فاعل لفعل محذوف ) يكون التقدير: إذا لم يدنس المرءُ لم يدنس من اللؤم عرضه... بينما التخريج الثاني( مبتدأ ) فيكون أكثر سلاسة حين نقدّره: إذا المرءُ غيرُ مدنّسٍ من اللؤم عرضه... علما بأن هناك كثيرون يعربون الاسم الواقع بعد إذا ( مبتدأ ) و لا حرج بذلك. وفي مبحث الفاعل أيضا نجد غرابة أخرى وهي تجويز اجتماع فاعلين كما في قول ابن الرقيات: تولّى قِتـال المارقين بنفسه وقد أسلماه مبعدٌ وحـميم حيث جوّزوا اتصال ضمير التثنية بالفعل واعتبروه علامة تثنية لا اسْما، وجعلوا المرفوع ما بعد الفعل على أنه فاعل ظاهر. ولا شك بأن هذا التخريج بعيد كل البعد عن المنطق النحوي. والأولى أن يعرب الضمير المتصل فاعلا، والاسم الظاهر بعده بدلا منه. ومثله قول الشاعر : يلومونني في اشـتراء النخيــلِ أهلي فكلّهم يعـذل ولعلّ مقولة ( أكلوني البراغيث ) تتصدر التجويز هنا ، ولا أعتقد عاقلا يمكن أن يعرب الواو وهو ضمير علامة جمع ويعرب ( أهلي ) فاعلا لأنّ واضع النحو آنذاك رأى ذلك، وقبل به من جاؤوا بعده، بينما يمكننا أن نجعلها بدلا دون أن نكسر القاعدة فلا يجتمع فاعلان، فنضطر لقلب واو الفاعل إلى علامة جمع. فهل ما جاء به الأقدمون لا يقبل الجدل وهو صحيح بالمطلق؟ ألا يمكن أن يكونوا قد وقعوا في سوء التقدير فاجتهدوا في النحو اجتهاد المعجزين ليرسُموا قواعد مغايرة للعقل والأصول. أما آن لنا نحن اليوم أن نرى غير ما رأوا بإثبات ما هو أجدى للمعنى وأكثر خدمة للغة.
|